مقالات مقروءة


رضاع الكبير ـ رؤية أعمق وأشمل


رضاع الكبير ـ رؤية أعمق وأشمل خصوص حكم رضاع الكبير بسالم أم عمومه للمسلمين؟ توطئة : أولا: ابتداءً يجب أن لا ننسى أن لله سبحانه وتعالي هو الحَكَم، قوله الحق، وله الحكم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم هو المبلِّغ عن الله سبحانه، وأنه داع إلى الله بإذنه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ((45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45-46]، فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو مما أذن الله به . وعلى المسلم أن يتلقى حكم الله بالقبول والانقياد {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب : 36 ] وهذا هو معنى الإسلام، والمسلم لا يناقش الحكم، وإنما يناقش الدليل، ومن شك في الحكم نخاطبه بالتوحيد لا بالأحكام الشرعية، نبين له أن الله حكيم عليم فعال لما يريد، لا يُسأل عن ما يفعل . ثانيا: جاءنا من النبي صلى الله عليه وسلم نص وبيان لمعنى هذا النص، أو قل جاءنا الحكم الشرعي وتطبيقٌ عمليٌ لهذا الحكم على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو على مَنْ معه من أصحابه رضوانه الله عليهم . فنحن ملزمون بفهم النص الشرعي ـ أو الحكم الشرعي ـ كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، ومن ثم الامتثال له كما امتثل الصحابة رضوان الله عليهم . أما تجريد منطوق القرآن الكريم أو الحديث الشريف من سياقه القولي أو العلمي ثم تفسيره بخلفيات عرفية أو لغوية، فهذا لا نعرفه، وهو مما يُحرف به الكلم عن مواضعه . ثالثا: الحكمة من الأحكام الشرعية هي غيرة الله تعالى على العباد.. كما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا» . وقَالَ: «... يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . وكما قدمنا إذا حكم الله وقضى فلا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]. وينبه حديث سعد الذي رواه البخاري إلى التعامل الصحيح مع حكم الله: قال سعد بن عبادة: " لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه "، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْد،ٍ فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى؛ مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّه...» . رضاع الكبير دليل على إنسانية الشريعة . . . وهو مخرج استثنائي وفي حادثة سالم مولى أبي حذيفة حكمٌ من أحكام الشرع الذي كشف عظمة الشريعة نفسها؛ إذ قام الحكم على اعتبار الحالة الإنسانية الصعبة التي ترتبت على إنهاء حكم التبني. فأصبحت الشبهة المثارة دليلاً على إنسانية الشريعة التي تحسب للإسلام، والتي بلغت حدًّا أوجد قاعدة (المخارج الشرعية) والتي كان منها حكم رضاع سالم.. ومثاله المخرج الشرعي الذي جعله الله لنبيه أيوب حتى يمنعه من ضرب زوجته!! يقول ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووَجَدَ عليها في أمْرٍ فعلته... وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة... فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها -مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان- أن تقابل بالضرب؛ فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا -وهو الشمراخ فيه مائة قضيب- فيضربها به ضربة واحدة، وقد برت يمينه وخرج من حنثه. فالمخرج الشرعي هو حكم استثنائي تحافظ به الشريعة على أحكامها مع الاعتبار الكامل لظروف الواقع، وهو ما حدث في قضية سالم مولى أبي حذيفة وغيرها. وبعد المقدمة يأتي الردُّ على الشبهة.. ونبدأ أولاً ببيان السياق العملي للحديث الذي ورد فيه رضاع الكبير .وما يستنبط من ذلك أَبَو حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ... تَبَنَّى سَالِمًا... وزَوَّجَه بِنْتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ -وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ ابْنُهُ-؛ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ. إذن سالم هو -أصلا- ابنٌ لأبي حذيفة بالتبني، وزوجته سهلة هي أمُّه بالتبني.. بكل ما يترتب على ذلك من أحكام التبني من الوراثة، ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة.. وهي الأحكام التي كانت ثابتة بالولادة أو الرضاع أو التبني. إنهاء التبني: فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيات إنهاء التبني: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]، «رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوْلَاهُ» . فنشأ مع ذلك مشكلة إنسانية؛ حيث رد الحكمُ الشرعي سالمًا إلى أن يصبح مولًا لأبي حذيفة بعدما كان ابنًا له بالتبني. وكان أبو حذيفة متبنيًا لسالم، وله كل أحكام التبني؛ من حيث العلاقة بأهل البيت كما تصف سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ على وَأَنَا فُضُلٌ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ. فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا؛ وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ» . فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ؛ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ . ولم تجد سهلة وزوجها أبو حذيفة حرجًا مما قضى الله؛ وبفرض أن الرضاع كان بالتقام الثدي فإن الحياء في إتمام الأمر بالنسبة لسهلة كان شيئًا طبيعيًّا لا بد أن يحدث حتى لو كان سالم ابنها بالولادة. ولكن الحياء لا يعني رد الحكم.. والالتزام بالحكم لا يعني إلغاء الحياء.. ومن هنا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينطق بالوحي وهو يعلم ما قد يصيب سهلة «الأم بالتبني» من حياء. حيث قَالَتْ: وَكَيْف أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُل كَبِير؟! فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُل كَبِير» وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَة! قَالَ: «أَرْضِعِيهِ» . وكما لم يكن هناك حرجٌ عند سهلة.. كذلك لم يكن عند أبو حذيفة. فلم يكن ما في نفس أبو حذيفة إلا تغير حكم سالم بعد إلغاء التبني؛ فلما أرضعت زوجته سالمًا ذهب ما نفس أبي حذيفة؛ فعاد الأمر في نفس أبو حذيفة تجاه سالم كما كان وقت التبني. فكان شعور أبو حذيفة مع الشرع في كل مراحله: في مرحلة التبني.. وما بعد إنهاء حكم التبني.. وفي حكم الرضاع. وتلك هي العظمة التي كشفتها الحادثة في الالتزام بالشريعة. تبقى ثلاث مسائل: المسألة الأولى: الطريقة التي رضع بها سالم وتفسير الرضاعة لغة يحتمل الطريقتين: التقام الثدي أو شرب اللبن بالقدح بعد حلبه من الثدي. وقصر معنى الرضاعة لغة على (التقام الثدي) فقط قول خاطئ؛ بل يطلق الرضاع ويراد به السقاية أيضًا. قال ابن منظور في لسان العرب في باب مادة (موت): " وقول عمر رضي الله عنه في الحديث: "اللَّبَنُ لا يموتُ" أَراد أَن الصبي إِذا رَضَع امرأَةً مَيِّتةً حَرُمَ عليه من ولدها وقرابتها ما يَحْرُم عليه منهم لو كانت حَيَّةً، وقد رَضِعَها، وقيل معناه: إِذا فُصِلَ اللبنُ من الثَّدْي وأُسْقِيه الصبيُّ فإِنه يحرم به ما يحرم بالرضاع، ولا يَبْطُل عملُه بمفارقة الثَّدْي؛ فإِنَّ كلَّ ما انْفَصل من الحَيِّ مَيِّتٌ إِلا اللبنَ والشَّعَر والصُّوفَ لضرورة الاستعمال ". كما أن فهم السلف يحتمل المعنيين أيضًا: ففي رواية ابن سعد -كما أوردها الإمام مالك- عن الواقدي عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال: " كانت سهلة تحلب في مسعط قدر رضعة فيشربه سالم في كل يوم، حتى مضت خمسة أيام؛ فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة ". ومن هنا كان قول القاضي في قوله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» قال القاضي: " لعلها حلبته، ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما ". وهذا الذي قاله القاضي حسن. ويحتمل أنه عُفي عن مسه للحاجة، كما خُص بالرضاعة مع الكبر.‏ المسألة الثانية: خصوص حكم رضاع الكبير بسالم أم عمومه للمسلمين؟ والنصوص التي ناقشت المسألة دائرة بين التخصيص والتعميم، والقول الأحسن في الجمع بينهما هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة، وشق احتجابها عنه كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمِثْلِ هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثَّر رضاعه، وأما من عداه فلا بد من الصغر؛ فإنه جمعٌ بين الأحاديث حسن وإعمالٌ لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص ولا نسخ، ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث ". ومن هنا يكون الحكم عامًّا لعدم تقيده بشخص سالم.. ويكون في نفس الوقت خاصًّا بمثل الضرورة التي كانت في حالته الشرعية. ومن هنا لا يكون رضاع الكبير حكم مجرد، ولكنها مسألة فتوى.. ليدخل في ضرورة الفتوى عدة أمور : - تقدير الضرورة في الواقع على أساس معنى الخصوص والعموم المذكورين آنفا. - النظر في حال المستفتي للاطمئنان إلى تقواه. ويذكر في ذلك أن أصحاب فتوى حادثة سالم كانوا: أبو حذيفة، وسهلة بنت سهيل، وسالم. فأما عن أبي حذيفة: فكان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، جمع الله له الشرف والفضل، صلى القبلتين وهاجر الهجرتين جميعاً، وكان إسلامه قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإسلام، هاجر مع امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى أرض الحبشة وولدت له هناك محمد بن أبي حذيفة، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقُتل يوم اليمامة شهيداً وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة. وأما عن سهلة بنت سهيل: فهي صحابية، أسلمت قديماً، وهاجرت الهجرتين. وأما سالم مولى أبي حذيفة: فهو من فضلاء الموالي ومن خيار الصحابة وكبارهم وهو معدود في المهاجرين وفي الأنصار أيضا لعتق مولاته الأنصارية، شهد سالم بدرا وقتل يوم اليمامة شهيدا هو ومولاه أبو حذيفة، فوجد رأس أحدهما عند رجلي الآخر وذلك سنة اثنتي عشرة من الهجرة. تقول عنه عائشة: أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حبسك يا عائشة» قالت: يا رسول الله إن في المسجد رجلا ما رأيت أحدا أحسن قراءة منه، قال: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك» . ويقول عنه ابْنَ عُمَرَ رضى الله عنهما: " كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ". بل يقول عمر عنه: " لو كان سالم مولى حذيفة حيًّا لوليته ". ويدخل في أسس الفتوى.. قاعدة إنسانية الشريعة: وهي المعالجة الإنسانية للآثار المترتبة على الأحكام، ونضرب لذلك مثالا يوضحه: ما حدث بإسلام أبي العاص بن الربيع؛ حيث كان زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما أسلمت بقي هو على شركه.. والحكم الشرعي في هذه الحالة هو إنهاء العلاقة الزوجية شرعًا بتأخر أحد الزوجين عن الإسلام؛ لكن المعالجة الإنسانية أعادت الاعتبار الكامل للعلاقة الزوجية السابقة بمجرد دخول الطرف المتأخر عن الدخول في الإسلام دون عقد جديد. وهذا الذي حدث عندما أجارت زينب أبا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي بنية، أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلِّين له». ومن هذه العبارة يكون الحد الفاصل بين المعالجة الإنسانية والحسم الشرعي.. فكانت المعالجة الإنسانية: «أكرمي مثواه» وكان الحسم الشرعي: «ولا يخلص إليك فإنك لا تحلِّين له» . فلما أسلم أبو العاص بن الربيع رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَيه بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ. وكذلك الحال في إنهاء حالة التبني.. قد عالجته الشريعة بصورة إنسانية: فكانت هناك مرحلة انتقالية بين التبني وإنهائه.. فكان للمتبنى حقوق الأبناء من النفقة والميراث والمحرمية.. فلما أبطل الله التبني كان لهذا الحكم آثاره، فلم يترك الشرع -إزاء هذه الآثار- المكلفين بغير معالجة إنسانية لهذا الواقع. فعالج (إنهاء التوارث والنفقة) الذين كانا قائمين حال التبني بالوصية. يقول ابن كثير في قوله: {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6] أي: ذهب الميراث، وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية . قال الزهري عن سعيد بن المسيب: " أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم، يورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية ". رواه ابن جرير. كما عالج (المحرمية) في حادثة سالم ببقاء سالم في البيت بعد إبطال التبني، حتى عرفت سهلة الكراهية في وجه أبي حذيفة من دخول سالم؛ فكانت فتوى الرضاع في إطار المعالجة الإنسانية للموقف تمامًا مثل الوصية بعد إنهاء الميراث. المسألة الثالثة : حقيقة الخلاف بين السيدة عائشة وأمهات المؤمنين: إذا كان الأمر كذلك فما هي حقيقة الخلاف بين السيدة عائشة وأمهات المؤمنين؟ في الواقع إن حقيقة الخلاف دائرة على معنى كلمة كبير.. وحسم هذا الخلاف لا يكون إلا بتحديد معنى كلمة كبير الواردة في الأحاديث والروايات، ولتحديد معنى الكلمة.. يجب مبدئيًّا الفصل بين معناها في حادثة سالم ومعناها في فعل عائشة.. ليكون رضاع الكبير في حادثة سالم هو إرضاعه بعد أن كان رجلاً، ثم دخوله على سهلة.. ومعناه في فعل عائشة هو الإرضاع بعد تجاوز السن الشرعي للرضاعة (حولين). ومن هنا نلاحظ أن مسألة إرضاع الكبير في كتب التفسير والحديث والفقه وردت في سياق تفسير آية سورة البقرة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]. وآية سورة النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وسواء كان الدخول على عائشة في مرحلة ما قبل البلوغ " الغلام الأيفع " أو مرحلة الرجولة فإن الرضاع الذي كان به الدخول.. كان في سن الرضاع أو تجاوز سن الرضاع بقليل، ولم يكن هناك بالنسبة لعائشة ومع كل الاحتمالات رضاع رجل كبير. ومن هنا ارتبط لفظ (المهد) في الروايات التي ذكرت فعل عائشة بلفظ (الكبير) ليتبين أن كلمة الكبير لا تعني أكثر من تجاوز مرحلة المهد؛ ومن أمثلة هذا الارتبط بين الكلمتين في الروايات ما جاء في مسند أحمد (57/193) ومستخرج أبي عوانة (9/179) ومسند الصحابة في الكتب التسعة (8/336): " فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا (وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا) خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ (فِي الْمَهْد) ". وهذا المعنى المستنبط جاء صريحًا في الروايات عند مالك في الموطأ: ... عن نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به -وهو رضيع- إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: " أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ ". قال سالم: " فأرضعتني أم كلثوم ثلاث رضعات، ثم مرضَتْ فلم ترضعني غير ثلاث رضعات، فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تُتِمَّ لي عشر رضعات ". ولعلنا نلاحظ أن عائشة كانت ترغب في دخول سالم بن عبد الله عليها لذلك أرسلت به إلى أم كلثوم لترضعه. ولكن أم كلثوم لم تتم رضاعته، فلم يدخل على السيدة عائشة، وأو كان الأمر هو جواز إرضاع الرجال لجعلت إحدى بنات أخيها ترضعه؛ ولكنه لما كبر وصار رجلا لم يكن ليدخل على عائشة. ومن الجدير بالذكر أن أصحاب الشبهة أوردوا: أن عائشة أرسلت سالم بن عبد الله لترضعه أم كلثوم دون أن يذكروا أن سالم بن عبد الله كان طفلا رضيعًا كما جاء في الحديث؛ ليفهم الناس أن أم كلثوم كانت تُرضع رجلاً كبيراً!! بطلب عائشة. ويجب تقرير أن طلب عائشة بالإرضاع كان لأطفال صغار، وأن ما ذُكر في الرواية (فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال) هو باعتبار ما سيكون منهم بعد أن يصبحوا رجالا. ودليل ذلك قول نافع أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن عائشة أم المؤمنين أرسلت به وهو رضيع إلى أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق فقالت: " أرضعيه عشر رضعات حتى يدخل عليَّ ". فلم تكن عائشة تقصد -طبعا- حتى يدخل علي وهو رضيع، بل كانت تقصد حتى يدخل علي بعد أن يكبر. فلا يكون لقولها "حتى يدخل علي" إلا هذا المعنى. ويؤكد ذلك عملها بهذا القصد، الذي شاركتها فيه حفصة فصنعت كما صنعت عائشة؛ عن مالك عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد أخبرته: أن حفصة أم المؤمنين أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر بن الخطاب ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع ففعلت فكان يدخل عليها... فلا يمكن فهم عبارة "فكان يدخل عليها" إلا بمعني بعد أن كبر كما سبق بيانه في حديث عائشة. وقد جاء هذا المعنى صراحة في أحكام القرآن للجصاص (3/25): وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ:" أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا ". فكانت عائشة تحب أن يدخلوا عليها بعد أن يصيروا رجالا؛ لتعلمهم أمر دينهم؛ التزاما بقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. وفي هذا الموقف دلالة على حرص أم المؤمنين -رضي الله عنها- على تبليغ دين رب العالمين، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما تتمتع به من ذكاء وبُعدِ نَظَرٍ. وعلى ذلك فاختلاف أمهات المؤمنين مع أم المؤمنين عائشة ليس في إرضاع كبيرٍ أو إدخال رجال عليها بهذا الإرضاع؛ لأن هذا لم يحدث من أم المؤمنين عائشة أصلاً ..! ولكن كان وجه اعتراض أمهات المؤمنين هو إرضاع الصغار بقصد الدخول، سواء كان الرضاع قبل حولين أو تجاوزه بقليل. فكان هذا القصد هو وجه الاعتراض كما في رواية صحيح مسلمٍ وغيره عن زينب بنت أمّ سلمة أنّ أمّ سلمة قالت لعائشة : " إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الّذي ما أحبّ أن يدخل عليّ ". فقالت عائشة : " أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة؟! ". قالت : " إنّ امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول اللّه: إنّ سالماً يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : «أرضعيه حتّى يدخل عليك» وفي روايةٍ لمالكٍ في الموطّأ قال: «أرضعيه خمس رضعاتٍ» فكان بمنزلة ولدها من الرّضاعة. والغلام الأيفع: هو من لم يتجاوز الحلم. مما يدل على أن احتجاج عائشة بحادثة سالم كان: (الإرضاع بقصد الدخول) ولم يكن الاحتجاج برضاعة من بلغ من الرجال مثل سالم. ثم تبقى بعد هذه المسائل بعض الملاحظات: حيث أورد أصحاب الشبهات عبارات جاءت في الروايات يجب التنبيه عليها: مثل عبارة "رضيع عائشة" التي أوردها مسلم: عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ -رَضِيعِ عَائِشَةَ- عَنْ عَائِشَةَ. مما جعل أصحاب الشبهة يقولون: أن عائشة كانت ترضع رجلا كبيراً. أما كلمة "رضيع عائشة" فمعناها: أخوها من الرضاع، يقول الفيروزآبادي في القاموس المحيط: (ورَضِيعُكَ: أخوكَ من الرَّضاعةِ). وهو عبد الله بن يزيد، كان تابعيًّا باتفاق الأئمة، وكانت أُمُّه أرضعت عائشة، وعاشت بعد النبي فولدته فلذلك قيل له: رضيع عائشة. ومثل عبارة (فمكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به رهبة له): حيث قيل: إنها من كلام سهلة -زوجة أبوحذيفة- وأنها ظلت في خجل من إرضاع سالم ولم تخبر به إلا بعد عام!! والحقيقة: أن هذه العبارة هي من كلام ابن أبي مليكة (راوي الحديث). يقول النووي في شرحه على مسلم: " (قال: فمكثتُ) هذا قول ابن أبي مليكة... (ثم لقيت القاسم) عطفٌ على (فمكثت) فهو من مقول ابن أبي مليكة أيضًا ". ويؤكد ذلك قول القاسم الذي روى عنه أبو مليكة: " (حدِّث به ولا تهابه)، ولو كان الكلام لسهلة لكان: (حدِّثي به ولا تهابيه) ". والرواية بتمامها: أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ -وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " جَاءَتْ سَهْلَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَقَدْ عَقَلَ مَا يَعْقِلُ الرِّجَالُ وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ‏؟ قَالَ: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ»‏ . فَمَكَثْتُ حَوْلاً لاَ أُحَدِّثُ بِهِ، وَلَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقَالَ: حَدِّثْ بِهِ وَلاَ تَهَابُهُ ".