كلمات ضرورية.. في جلسة الرؤية الشرعية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد كل من يريد الزواج فإنه يضع نفسه في ميزان المجتمع الذي يعيش فيه، ويكون القبول أو الرفض هو مؤشر هذا الميزان الذي سيحدد له وزنه الاجتماعي في هذا المجتمع . و مرحلة الاختيار هي التي تجتمع فيها المقاييس والتصورات والتقاليد وكل الأبعاد الاجتماعية مما يجعل جلسة الاختيار محصلة نهائية لكل هذه الأبعاد.. ويجعل الخلل في الاختيار دليلًا مباشرًا على الخلل في هذه الأبعاد. ولعل هذا هو المعنى المأخوذ من قول رسول الله : «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»( 1). إذ إن الملاحظة الواضحة في الحديث هي تعليق الفتنة -التي تعم الأرض والفساد الكبير- بقيم المجتمع الحاكمة للاختيار والتزاوج في الأمة. ومن هنا كان الدين والخلق هي القيم العليا للمجتمع المسلم، التي يتم الاختيار على أساسها. وفي اختيار الزوج أو الزوجة شرط معروف باسم (شرط التكافؤ). وفي تحقيق هذا الشرط يجب أن تدخل ظروف الدعوة؛ لأن قبول الأخ المسلم باعتبار ما قدمه للدعوة من جهاد وبذل يعني ترسيخ قيم المجتمع المسلم عندما يقوم ولذلك يجب أن تنشأ في الواقع الإسلامي الحاسة السليمة التي يأخذ بها كل فرد حقه الاجتماعي بين المسلمين في إتمام الزواج؛ ترسيخًا لهذه القيم.. ابتداءً من خطوة التزكية للزواج. مع الحذر من إدخال تاريخ الدعاة ومحنهم ومواقفهم الدعوية في مهمة التزكية، حتى لا يتحول تاريخ الدعاة إلى مهور للزواج؛ فلا يتكلم أحد عن نفسه ولا يذكر جهادًا جاهده. وفى حادثة زواج بلال دليل على هذه الحاسة وذلك الشرط؛ إذ قال فيه من قدّمه لخطبة إحدى النساء: إنه مؤذن رسول الله وصاحبه في جهاده... فأسكته بلال قائلًا: (إن تقبلوا فالحمد لله، وإن ترفضوا فسبحان الله). التزكية: والبداية الطبيعية للاختيار هي تزكية الطرف الوسيط بين طرفي الزواج، وأساسها صحة المعلومات المنقولة عن كل طرف للآخر؛ لأن قبول الجلوس للرؤية سيكون مبنيًّا عن هذه المعلومات، وأي خطأ فيها يسبب صدمة مهما كان هذا الخطأ بسيطًا. ولا يجب أن تؤثر رغبة إتمام الزواج عند الوسيط في.. أمانة التزكية. كما يجب ألا تقوم التزكية على مجرد التزام الهدي الظاهر أو القدرة الفكرية والكلامية. بل يجب أن تقوم على دراية كاملة بدينه وتعبده وشواهد تقواه، ودراية تامة بخُلقه وطبيعته وتصرفاته. كما يجب الاعتبار الكبير للمرحلة التي تمر بها الدعوة إذا غلب عليها التلون والتشبه والتظاهر دون جوهر إيماني صحيح. الولي: وولي الخطيبة هو الطرف الأساسي الذي يقوم عليه الاختيار الصحيح، مما يقتضي معالجة موقف الولي وتصحيحه. وأول ذلك.. الحذر من تقديم طرف لم تستوف معرفته به؛ ارتكازًا على حصافة الاختيار عند الفتاة.التي يتولى أمر زواجها لأن الفتاه قد تتأثر بالرؤية عاطفيًّا، فترغب في الزواج منه دون النظر لمعايير الاختيار الصحيح، وبذلك لا يجوز إدخال الفتاة في تجربة نفسية غير قادرة على مواجهة آثارها. كما لا يجوز للولي إكراه الفتاة على رجل يرغب هو فيه، دون أن تتولد رغبتها هي بصورة طبيعية ، ومن هنا يجب أن يتحدد مدى مراجعة الأخت إذا اتخذت قراراها بالرفض كما يجب الحذر من اندفاع الولي بشعور القلق على مستقبل وليته والرغبة في تزويجها. وفي المقابل يجب الحذر من التعنت في الاختيار والمبالغة في الحذر، الذي يجعل الولي غير قادر على اتخاذ القرار الصحيح. وليس من الصواب.. تخويف المخطوبة من فوات سن الزواج؛ لأن ذلك يسبب توترا واستفزازًا لمشاعر الفتاة يجعلها عاجزة عن إتخاذ قرارها الصحيح مكان الجلسة وباعتبار تركيز الشيطان على بدايات الأمور( 2) وأن جلسة الاختيار هي البداية الحقيقية للزواج.. يكون من المهم التحرز من الشيطان في تلك الجلسة.. من حيث المكان.. إذ يمكن قراءة سورة البقرة في المكان الذي ستتم فيه الرؤية.. حتى لا يكون شيطان في مكان الرؤية. ومن حيث.. الأطراف الحاضرة فلايتواجد إلا أصحاب الطاعة والإلتزام ومن حيث.. الكلام والتصرفات. إذ يجب الحذر من أي أخطاء شرعية.. حتى لا يحضر الشيطان. النظر: وفي إطار فهم قول النبي : «.. فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا»( 3). .. يمكن التنبيه على أن كل طرف يحاول الظهور بأجمل صورة. ومن خلال ذلك يمكن أن يكون شكل الجلسة أو زاوية النظر مختارة، لتظهر أجمل جوانب الشخص الجالس، مما يتطلب الدقة في الرؤية ، حتى لا يرى بعد ذلك أي طرف من الطرف الآخر ما لا يعجبه فتنشأ المشكلة. فكل فتاة تدرك أوضاع الجلوس التي تكون فيها أحسن ما تكون عندما ينظر إليها الخطيب.. وهذا من حقها.. بشرط ألا تخفي عيبًا.. حتى لا يصدم الخطيب بهذا العيب - مهما كان هذا العيب بسيطًا.. لأن الصدمة في حد ذاتها هي التي تُحدث النفور.. حتى لو كانت في أمر بسيط. كما يجب أن لا يمنع الحياء من الرؤية المتفحصة. ولعل هذا هو المعنى المقصود من أمر رسول الله إلى أحد الخاطبين بالعودة إلى الخطيبة كما في حديث أبي هريرة قال: كنت عند النبي ، فأتاه رجلٌ فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله : «أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئًا»( 4). حوارات الرؤية وتساؤلاتها: وفي حوار الجلسة يكون في الحسبان عدة أمور: - الاطمئنان إلى التصور الصحيح.. والوعي بالواقع وفقًا لهذا للتصور الصحيح. - والاطمئنان إلى عقلية يمكن التفاهم معها في الحياة الزوجية. ويكون ذلك برحمة وحوار سهل بسيط.. ودون الدخول في المشكلات الفكرية المعقدة. فلا يتجاوز الحوار غرض الاطمئنان على الاستقرار الفكري، خوفًا من ظاهرة التقلب المرتبطة بظروف الفتنة الفكرية، لضمان الاستقرار الاجتماعي بعد الزواج. والمعروف أن المرأة تتبع ما عليه الزوج.. فلا ضرورة للقلق من هذه الناحية. أمانة الحديث: وفي الحديث عن الحياة الشخصية والتجارب السابقة.. غالبًا ما يكون الأخ حريصًا فيه على إعطاء صورة خطيرة لمستقبله، وذلك باعتبار الأمانة وباعتبار الاطمئنان على موقف الأخت التي سيتزوجها. ويكفي في هذا الأمر.. إعلان الأخ موقفه كمسلم ملتزم. وباعتبار الاطمئنان على موقف الأخت.. فإن قبولها للزواج من الأخ المسلم يعني ضمنًا الاستعداد لتحمُّل الصعاب الناشئة عن اتخاذ الموقف الإسلامي الصحيح. ولكن ليس من الصواب الاستطراد في ذكر الخطر والمبالغة في تصوير المحن؛ إذ إنه قد يصل هذا الخطأ إلى حدٍّ تشعر فيه الأخت أن الذي أمامها ليس خطيبًا يريد الزواج، ولكنه مصيبة أتتها، وبلاء تمر به(5 ). فمن الضروري مثلًا.. أن يذكر أنه سبق اعتقاله في قضية سياسية. ولكن ليس من الضروري.. أن يحكي ما الذي حدث له بتفصيل مُفزِع لها ولأهلها. وباعتبار الأمانة من جانب الأخت.. قد تخبر الخطيب أنها ليست بارعة في صنع الطعام مثلا. ولكن ليس من الصواب المبالغة في ذكر العيوب ظنا أن ذلك من الأمانة فلا تخبره بأنها لا تحسن صنع أي الطعام بأي مستوى وخصوصًا إذا فهم كل طرف من حديث الطرف الآخر.. أنه سيكون حجة عليه بعد الزواج، فيصبح الكلام موافقة ضمنية على الأوضاع التي ستكون بعد الزواج. ولا بأس من معرفة الطرفين كل شيء عن بعضهما، ولكن ذلك يكون بالاقتصار على المعلومات الأساسية الداخلة في تقييم كل طرف وقبوله للآخر كزوج. وهناك أمور لا يمكن مناقشتها أثناء الجلسة.. ولكن يمكن الإخبار بها من خلال الأطراف الوسيطة، مثل أن يكون هناك مرض أو أثر جسماني أو أي أمر آخر قد يسبب صدمة عند اكتشافه أما بعد العلم بهذا الأمر فلن تكون هذه الصدمة القرار: وبعد معالجة موضوع «الجلسة» يكون معالجة «القرار».. وأهم ما فيه هو مراعاة الطرف الآخر إذا لم يتحقق القبول، فلا يبدو على وجه الرافض علامات الرفض، بأن يطلب الانصراف بسرعة محرجة مثلا... وقد يعتبر البعض أن القرار بالرفض من أحد الطرفين يعني عدم شرعية استمرار الجلسة.. ولكن الاستمرار بنية احتمال تغيير القرار يجعله صحيح شرعًا. تفسير الإحساس بالقبول أو الرفض ولكن قبل القرار يجب التنبيه على تفسير الإحساس بالقبول أو الرفض؛ لأن الخطيبين قد يخطئا في تفسير قرارهما . فقد يكون هناك تصور بأن القبول يعني أن تحدث هجمة وجدانية على القلب لا يمكن دفعها.. حتى إذا لم يجدها ظن أنه لم يتم القبول. لكن القبول يكون بمجرد الارتياح النفسي.. بغير هذه الهجمة المتوقعة. ويجب أن يراعى في اتخاذ القرار الفرق بين التخيل الذي في الذهن عن صورة من يريد الارتباط به وبين الواقع... وأن المقاربة بين الخيال والواقع هو التصرف السليم وقد يتسرب إلى أحد الأطراف خوفٌ من أن يكون هو المرفوض، فيتسبب التوتر الناشئ عن ذلك في المبادرة بالرفض، حتى يكون هذا الطرف هو الرافض لا المرفوض. وسبب ذلك هو التصور الخاطئ عن القبول والرفض. فيجب التعامل مع هذه المسألة باعتبار أن الزواج أمرٌ مقدر، وأن الرفض لا يعني العيب، ولكن يعني عدم التوافق بين طرفين صالحين لا بأس بهما وبدينهما، وأن الرفض ليس نقيصة تلحق بالمرفوض. ويفضل عدم تعجل المحيطين بالطرفين بمعرفة نتيجة الجلسة.. والإمهال حتى يتم تفكير كل طرف بينه وبين نفسه أولًا؛ إذ قد يقوم الخطيب أو الخطيبة من الجلسة وهو لا يعرف نفسه هل هناك قبول أم لا. صلاة الاستخارة: ومن هنا يجب الالتزام بسنة صلاة الاستخارة قبل إعلان القرار.. ولكن في صلاة الاستخارة بعض الأفكار التي تتطلب المعالجة. أولها: ضرورة صلاة الاستخارة.. سواء كان هناك شعور بالقبول أم لا؛ لأن هناك من يظن أن صلاة الاستخارة تكون في حالة الرفض للعدول عنه.. أو ترك صلاة الاستخارة اكتفاء بمشاعر الرغبة في إتمام الأمر. ثم تأتي فكرة الرؤية المنامية بعد الاستخارة.. إذ إن هناك ظن بأن صلاة الاستخارة يتبعها رؤية منامية تبين له النتيجة، ومع أن الرؤية المنامية قد تكون ضمن أساليب التحفيز الى تحقيق الأمر المقدر مثلما جاء في قول الله عز وجل في غزوة بدر لتحفيز المسلمين للقتال في سورة الأنفال " إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) " ومثلما رأى رسول الله عائشة في رؤية منامية قبل أن يتزوجها عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أُتِيتُ بِجَارِيَةٍ فِي سُرْفَةِ حَرِيرٍ فَكَشَفْتُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَقُلْتُ : إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُمْضِهِ ، ثُمَّ أُتِيتُ بِجَارِيَةٍ فِي سُرْفَةِ حَرِيرِ فَكَشَفْتُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ فَقُلْتُ : إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ قِبَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُمْضِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ولكن هناك من يتصور أن الرؤية المنامية شرط في إتمام أمر الزواج فيعلق الأمر عليها وهي ليست كذلك وليست أثرا حتميا لصلاة الإستخارة في أمر الزواج ، ولكن قبول الاستخارة يكون بما يحدث في الواقع فعلًا ، واعتبار أنه في كل من القبول أو الرفض يكون الخير التعامل الصحيح مع نتائج الجلسة: والصواب هو تقبل نتائج الجلسة ببساطة ودون تأثر. وأن يتحدد مدى تدخل الولي في تكوين رأي المخطوبة.. بذكر مزايا الخطيب وطلب التفكير مرة أخرى وتكرار الرؤية وإعادة صلاة الاستخارة وطلب المشورة. ولا يتجاوز الأمر هذه الحدود.. حتى لايصل الأمر إلى حد الإكراه وهو الأمر المنهي عنه، والذي قد يبقى أثره معها طوال فترة زواجهما. وفي النهاية فإن الزواج أمر قدري جامع لقدر الرزق حيث يقدر رزق الزوجة برزق الزوج ويرزق الزوج برزق الزوجة لقول رسول الله "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" البخاري ومسلم - (1 / 103) كما أن قدر الزواج جامع لأمرالولد والإنجاب بينهما وقد بين النبي (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة ) رواه البخاري ومسلم فإذا كانت هناك نسمة مقدرة بينهما كان أمر زواجهما قدرا مقدورا وكذلك الحب والوفاق القلبي بين الطرفين لأن القلوب بيد الله كما قال رسول الله « إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى يصرفها حيث يشاء » كما أن الزواج أمر غيبي في نتائجه وآثاره مما يقتضي الدخول في أمر الزواج بالتوكل على الله وتفويض الأمر اليه مع التزام الشرع والأخذ بالأسباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ـــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المعجم الأوسط ح7074. (2 ) يراجع عندما ترعى الذئاب الغنم للكاتب ( 3) مسند أحمد ح18154. (4 ) الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم (3 /231). ( 5) بيت الدعوة للكاتب.