مقالات مقروءة


رمضان زمن من الجنة بشهادة الأمة


رمضان زمن من الجنة بشهادة الأمة في الحديث «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ إِلَّا أَنْ يُغَمَّ عَلَيْكُمْ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ » [صحيح مسلم كتاب الصيام:ح/1800]. والحديث يشير بوضوح إلى أن إجماع الأمة وتقديرها في تحديد بداية الشهر هو الذي يكون به الأمر عند الله إذا مَنع الغمامُ الرؤيا « فإن غم عليكم فاقدروا له » فيكون رمضان عند الله بحساب الأمة وتقديرها وشهادتها. ويدعم هذا المعنى ما جاء في سنن البيهقي: « فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تُضَحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر » [السنن الكبرى للبيهقي:5/175]. والمعنى أن فعل الأمة هو الذي يعطي الصفة الشرعية للزمن الذي يكون فيه الفعل. فيوم الفطر عند الله هو اليوم الذي يفطر فيه المسلمون، ويوم الأضحى عند الله هو اليوم الذي يضحي فيه المسلمون، تمامًا كما كانت بداية رمضان هي اليوم الذي أجمع عليه المسلمون. وبذلك تترسخ قيمة الأمة في شرع الله وفاعليتها في قدره. ويزيد الأمر بيانا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « أنتم شهداء الله في الأرض » حيث ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - أنهم مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ: « وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ » [صحيح البخاري:1367، كتاب الجنائز] ولاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: "صدقتم" إذْ كلمة صدقتم تفيد أن مصير الجنازتين كان محددًا عند الله، وبالتالي يكون المعنى أن شهادة المسلمين وافقت ما كان عند الله، وإنما قال: « وجبت» وكأن مصير الجنازتين عند الله تحدد بشهادة المسلمين. وحتى تعلم قيمة الأمة في شرع الله وفاعليتها في قدره، تدبر الآثار المترتبة على دخول شهر رمضان، الذي يتحدد بدايته بشهادة الأمة، سيتحدد تبعا لتلك الشهادة... توقيت ليلة القدر... توقيت نزول الملائكة والروح فيها يإذن ربهم. وحيث سيكون فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار وسلسلة الشياطين كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين » [مستخرج أبي عوانة:2174]، وكلها أقدار جامعة لآثار عظيمة ناشئة عن شهادة الأمة. وفتح أبواب السماء يعني كما في راوية أخرى أبواب الجنة وجاءت بلفظ أبواب السماء هنا لإثبات أن الجنة في السماء، وليس هذا الفتح عملا رمزيا ولكنه عمل له آثاره الكونية المحسوسة. قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين [هذا الدخول الذي تحدد بإجماع الأمة]. قال الزين بن المنير: ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره. وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرا فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك؟ فالجواب: أنها إنما تقل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية، وقال غيره: في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف كأنه يقال له: قد كُفَّت الشياطين عنك، فلا تعتل بهم في ترك الطاعة ولا فعل المعصية. وسواء كان المعنى على الحقيقة أو المجاز فالثابت هو الأثر الكوني المحسوس لهذا الخبر النبوي. «إذا جاء رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ». ولكي نفهم هذا الأثر في رمضان نعرج على أثر الجنة والنار في غير رمضان من ناحية الجنة يثبت الأثر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النيل والفرات من أنهار الجنة [فتح الباري لابن حجر:ج11/ص216]. قَالَ النَّوَوِيّ: فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ أَصْل النِّيل وَالْفُرَات مِنْ الْجَنَّة، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْل سِدْرَة الْمُنْتَهَى، ثُمَّ يَسِيرَانِ حَيْثُ شَاءَ اللَّه، ثُمَّ يَنْزِلَانِ إِلَى الْأَرْض، ثُمَّ يَسِيرَانِ فِيهَا ثُمَّ يَخْرُجَانِ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعهُ الْعَقْل، وَقَدْ شَهِدَ بِهِ. قَالَ: وَقِيلَ: وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى هَذِهِ الْأَنْهَار أَنَّهَا مِنْ الْجَنَّة تَشْبِيهًا لَهَا بِأَنْهَارِ الْجَنَّة لِمَا فِيهَا مِنْ شِدَّة الْعُذُوبَة وَالْحُسْن وَالْبَرَكَة، وَالْأَوَّل أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَم. ومن ناحية النار يثبت الأثر من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ » [البخاري، مواقيت الصلاة/534]. وذكر: أن النار اشتكت إلى ربها، فأذن لها في كل عام بنفسين: نفسٌ في الشتاء ونفسٌ في الصيف» [صحيح مسلم:1433]. ومن ذلك أيضا الارتباط بين النار والشمس على المستوى اليومي وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة: « .. والصلاة متقبلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح، فإذا كانت على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإنها الساعة التي تسجر فيها جهنم، ويغم فيها زواياها حتى تزيغ، فإذا زاغت فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغرب الشمس » [صحيح ابن حبان:1567]. غير أن هذه الآثار الناشئة عن فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار تكتمل تماما في ليلة القدر ومن هنا جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين هذه الآثار وتلك الليلة فقال: « أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» [النسائي، كتاب الصيام:2079] ومن هنا كانت العلامات الواردة لليلة القدر مرتبطة بتلك الآثار، فبالنسبة للجنة يأتي وصفها في تفسير قوله تعالى: { إن لك ألا تجوع فيها} أي: في الجنة { ولا تعرى}، { وأنك لا تظمأ فيها } أي: لا تعطش، والظمأ: العطش { ولا تضحى} أي تبرز للشمس فتجد حرَّها، إذ ليس في الجنة شمس، إنما هو ظل ممدود، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس [القرطبي]. قال أبو العالية: نهار الجنة هكذا: وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. وهو نفسه وصف ليلة القدر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة سجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح» [رواه ابن عبد البر في التمهيد وقال: حسن غريب]، وهذا الوصف هو وصف مناخ الجنة، ويضاف إلى ذلك أن تكون الملائكة مع المؤمنين في ليلة القدر مثل الملائكة مع المؤمنين في الجنة، { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23]. كذلك يكون سلام الملائكة على المؤمنين ليلة القدر كما جاء في تفسير قوله تعالى: {تَنزلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}: لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلَّموا عليه، وعن الشعبي في قوله تعالى: { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} قال: تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد، حتى يطلع الفجر [تفسير الألوسي:ج23/ص64]. وأن علامة مصافحتهم: اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين [نظم الدرر للبقاعي:ج9/ص481]. ومن هنا كان قول البقاعي في فضائل ليلة القدر "ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة - التي هي سببها - بها، فكان ذلك أدل على عظمتها. أما من حيث إغلاق أبواب النار فقد تبين - آنفا - أثر النار على الشمس فيكون أول صفات ليلة القدر هو منع هذا الأثر عن الشمس كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: « وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليلة سمحة طلقة، لا حارة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء » [صححه الألباني في صحيح الجامع:5475]. فلا يكون للشمس شعاع حيث لا يكون لجهنم أثر عليها. ليصبح رمضان وليلة القدر زمنا من الجنة وتصبح شهادة الأمة إيذانا بهذا الزمن.