الشواهد النفسية على شرك القبور الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد: تأتي أهمية الشواهد النفسية على الشرك من أن قضية التوحيد والعبادة في الأساس قضية قلبية نفسية، فالإيمان هو الاطمئنان. وهو ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، والعبادة هي غاية الحب.. مع مطلق الطاعة، ومن هنا تأتي أهمية تفسير الشرك... باعتباره التناقضً النفسي المطلق مع التوحيد والعبادة، فتأتي المناقشة القرآنية النفسية للشرك لتكشف الحالة النفسية للمشرك بقدر التركيز على فعل الشرك نفسه. ومن ذلك قول الله -عز وجل-: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] فظهر الشرك هنا بصفة نفسية واضحة... الاشمئزاز إذا ذكر الله وحده والاستبشار إذا ذكر الذين من دونه، وكذلك الإيثار النفسي عند المشرك لمن يعبده من دون الله -على الله -سبحانه وتعالى-، وذلك في قوله -تعالى-:{وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]. ففي قول الله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ} قال ابن عبّاس وقتادة: كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الرّيح فحملت من الّذي لله إلى الّذي لشركائهم أقَرّوه، وقالوا: إنّ الله غنيّ عنه. وإذا حملت من الّذي لشركائهم إلى الّذي للَّهِ ردّوه. وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله ممّا لله، ولا يفعلون ذلك فيما لله، وكانوا إذا أصابتهم سَنَةٌ استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقرّوا ما جعلوه لشركائهم للشركاء، وإذا هلك الّذي جعلوه للأصنام وكثر الّذي جعلوه لله قالوا: ليس لآلهتنا بدّ من نفقة، وأخذوا الّذي جعلوه لله فأنفقوه عليها، وإذا أجدب الّذي لله وكثر الّذي لآلهتهم قالوا: لو شاء الله أزكى الّذي له، فلا يردّون على ما جعلوه لله شيئًا ممّا لآلهتهم، فقوله: {فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ} مبالغة في صونه من أن يعطى لما لله؛ لأنَّه إذا كان لا يصل فهو لا يُتْرك إذا وَصل بالأوْلى. كما تذكر سورة النحل قوله -تعالى-: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل: 62]، فإذا كان الشرك هو نسبة الأبناء لله.. فإن البعد النفسي للوثنية كما يصنعها إبليس. هو أن يكون هؤلاء الأبناء الذين ينسبهم المشركون إلى الله من (البنات)، وهو ما يكرهونه هم لأنفسهم!! وهو ما دل عليه قول الله -سبحانه-: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] وقوله -سبحانه-: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] وقوله -سبحانه-: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] فكانَ ذلك الجعل ينطوي على خصلتين من دين الشّرك، وهما: نسبة البنوّة إلى الله، ونسبة البنات مع الإيماء إلى كراهتهم لهن. و أخطر الحقائق الناشئة عن التفسير النفسي للشرك.. حقيقة "الوحدة الموضوعية" له من عهد نوح حتى آخر الزمان، لأن عودة الوثنية بنفس خطوات النشأة الأولى ستكون بمحورية الفعل الشيطاني حول المشاعر القلبية والنفسية في الإنسان بصورة مباشرة، سواء من حيث إحداث الشرك في القلب أصلًا، أو من حيث إحداث الآثار النفسية المترتبة على ذلك بالفعل والسلوك، لتصبح تلك الآثار.. هي الشواهد النفسية على الشرك التي تمثل أساسًا علميًّا في تفسير النصوص الشرعية المتعلقة بكل الأعمال الشركية. والوحدة الموضوعية للشرك بأساسها النفسي من البداية حتى النهاية.. حقيقة في غاية الخطورة، دل عليها بصورة مباشرة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» [المحدث: ابن القيم، صحيح]. ووفقًا لمنهجية الحديث النبوي يجب القول بالعلاقة بين الأمرين.. «من تدركهم الساعة وهم أحياء.. والذين يتخذون القبور مساجد» ، ولتوضيح معنى المنهجية نذكر مثلًا بحديث آخر، وهو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى بن مريم»[صححه الألباني]. ووفقًا لمنهجية الحديث النبوي -أيضًا- يجب القول بالعلاقة بين العصابتين؛ لورودهما في حديث واحد.. وفي سياق واحد، فنجد أن العصابة التي تغزو الهند ذُكرت باعتبار أن الهند قد شهدت البداية التاريخية للفلسفة الوثنية والتثليث، والتي نقلها عنهم أرسطو وأفلاطون، والتي نقلها عن أرسطو وأفلاطون فلاسفة النصارى، حتى انتهى أمر النصارى إلى الانحراف التام.. والذي سينزل عيسى -عليه الصلاة والسلام- ليصححه «فيكسر الصليب ويقتل الخنزير»[متفق عليه]. ولذلك تشترك في الجزاء.. العصابة التي تغزو الهند (البداية التاريخية للتثليث) مع العصابة التي تحقق (النهاية التاريخية لهذا التثليث) بالقتال مع عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فالذين تقوم عليهم الساعة هم آخر الشر ومنتهاه.. وأن الذين يتخذون القبور مساجد هم أول الشر ومبتداه. ومن هنا يجب الانتباه إلى خطر الارتباط بين بداية شرك القبور ونهايته.. الذي يدل عليه الحديث، باعتباره الظاهرة الجامعة لكل أفعال الشيطان، حيث نرى الآن في واقع القبوريين نفس الخطوات والشواهد.. ومن هنا كان قول الله -عز وجل-: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18 ]هو الأساس في معالجة رسول -صلى الله عليه وسلم- لتلك القضية بدقة نفسية تامة بلغت حد النهي عن أن يتخذ الإنسان لنفسه مكانًا ثابتًا في المسجد؛ حتى لا يكون هناك مكان في المسجد يقال فيه: هذا مكان فلان ويعرف به. ومنه نهى رسول الله عن إيطان الإبل عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن ثلاث، عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المقام للصلاة كما يوطن البعير [حسنه الألباني]، ومن دقة المعالجة النفسية لهذا الأمر.. ندرك مدى مصيبة اتخاذ القبور مساجد؛ حيث تجتمع فيه شواهد الشرك منها: - ارتباط بناء المسجد من أساسه بصاحب المقام، حتى أصبح المسجد لا يعرف إلا بالولي المزعوم. فلا يقال عن المسجد إلا مسجد فلان. - ومنها شدَّ الرحال إلى هذه المساجد بعينها.. وهو الأمر الذي نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومسجد الأقصى»[رواه البخاري]. - ومن الشواهد النفسية الخطيرة (حالة المقام نفسه)، والتي يتفنن الناس في صنعها من أغلى المعادن ومن الذهب والفضة. وهي نفس فكرة "السامري" التي صنع بها العجل لبني إسرائيل من الذهب.. فينعكس تعظيم بني إسرائيل للذهب ليكون تعظيمًا للعجل [1]. - ومنها التوجه نحو القبر في العبادة.. وذلك بصلاة الناس خلف المقام وفي اتجاه القبلة، بحيث تكون الصلاة في اتجاه المقام والقبلة في وقت واحد والتزاحم على الصلاة في هذا الموضع بالذات من بين مساحة المسجد. - ومن الشواهد النفسية الخطيرة (حالة الرهبة والخشوع التي تكون أمام المقام)، والخوف الذي يكون أشد من الخوف من الله.. عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم علينا.. ثم دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله.. ثم انصرف راجعًا إلى بعيره.. فأطلق عقاله حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به وهو يسب اللات والعزى، فقالوا: مه يا ضمام، اتَّق البرص والجذام اتق الجنون! فقال: ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان". [المحدث: أحمد شاكر، صحيح]، ومن هذا الخوف تجد الجرأة على القسم بالله والإمتناع عن القسم بالولي خوفا من عاقبة الحنث في القسم بالولي المزعوم. - ومن الشواهد النفسية على شرك القبور هو (التحاب والتواد في الولي المزعوم بين المجتمعين على المقامات) في الموالد، حتى يبلغ الأمر إسقاط الفرق بين الرجال والنساء كما قال الله -سبحانه وتعالى- فيهم: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[العنكبوت: 25]، ولعلنا ننتبه إلى عقوبة التواد في الأوثان.. وهي أن يكفر ويلعن المتوادون بعضهم بعضًا. وظاهرة التواد في الشرك ظاهرة وثنية لها عقوبة ثابتة.. وهي أن يحل الكره والبغض بينهم بالكفر واللعن، وحتى القتل، وهو الأمر الذي كتبه الله على بني إسرائيل لما عبدوا العجل وتحابوا فيه فقال الله -سبحانه-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]، ومعنى الآية: أنهم اجتمعوا على حب العجل وتحابوا فيه، ولذلك كانت توبتهم أن يقتل بعضهم بعضًا للقضاء على هذا الحب الوثني {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 54]. ومن التواد في عبادة القبور.. التبني العائلي للمقام.. حيث تجد أن كل عائلة لها مقامها ووليها المزعوم فتجد أن كل القبائل والعائلات تعمل جاهدة على إثبات الولاية لرجل منها؛ ليكون للقبيلة أو العائلة شأن بين الناس.. كما كان الوضع في الجاهلية الأولى. حيث كان لكل قبيلة صنمها الذي تعرف به، وهي فعلٌ شيطاني يصبُّ به مشاعر العصبية في وعاء الشرك.. لينتمي المشرك إلى وثنه كما ينتمي إلى قبيلته أو عائلته. - ومن الشواهد النفسية الدالة على الوثنية (إكبار السائبة) وهي الأنعام المنذورة للأولياء المزعومة.. بحيث لا يملك أحد القدرة على منعها حتى لو أفسد الحرث والزرع، تمامًا مثلما يحدث من الهندوس في الهند. ولأجل أن السائبة خروج بالأنعام عن وضعها المحدد لها من عند الله.. كان جزاء أول من سيب السوائب هي خروج أمعاءه من بطنه عن وضعها المحدد لها، عن عروة أن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضًا، ورأيت عمرًا يجر قصبه، وهو أول من سيب السوائب»[رواه البخاري].. فسيب الله أمعاءه كما سيب هو السوائب لأن السوائب من الأنعام التي تؤكل وتدخل الأمعاء بغير اسم الله، ولأنه أخرج الأنعام عن حدها الذي تحدد لها فسيبها.. فأخرج الله أمعاءه عن حدها. حتى جعل يجرها في النار. والتعامل النفسي للشيطان لإحداث الآثار النفسية في قلوب المشركين.. يدخل فيه بصفة أساسية حساب الفطرة التي خلق الله الناس عليها وهي التوحيد، ومن هنا يتسلل الشيطان بالشرك.. إلى الإنسان، وليس أدل على خطر هذا التسلل من وصفه كدبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء.. فأنى تراه؟!، والمدخل الأساسي للتسلل إلى النفس هو الأمنيات الباطلة كما في الآية: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}[النساء: 119]، حيث قال القرطبي في تفسيرها: "وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية، لأن كل واحد في نفسه إنما يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله" (الجامع لأحكام القرآن- 5/ 389) مما يدل على أن دخول الشيطان لكل إنسان يكون من خلال طبيعته وحالته النفسية الخاصة مما يكشف حقيقة تسلل الشيطان إلى النفس بالشرك، وهو نفس تفسير الألوسي- (4/ 235)، وأدعو كلا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة. ولكن بصفة عامة .."{وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} أي بأنهم لا عذاب عليهم" تفسير ابن أبى زمنين- (1/ 141) وهو عندهم دخول الجنة رغم المعاصي وترك الطاعة كما قال البغوي (2/ 289)، أمنيّنَهَّم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي. - ثم يكون التسلل بالتوهم الخاطئ بأن ما يفعله المشرك ليس شركًا.. كما قال الله -سبحانه-: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، وكذلك يقذف الشيطان في قلب القبوري: أنه لا يعبد القبر.. ولكنه يتقرب به إلى الله. - كما يكون التسلل.. بالتدرج في إحداث الشرك.. كما روى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح: 23] قال: "كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح -عليهما السلام-، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر.. فعبدوهم"، ولعلنا نلاحظ أن المنفعة كانت هي المدخل الأساسي لإبليس في إقناع الناس بالشرك، ومن هنا ارتبط شخص الوثن بالمنفعة.. وهي القاعدة التي بقيت مع كل الشخوص التي يختارها الشيطان ليعبدها المشركون، فكانت كل الكرامات المزعومة لمن يسميهم الناس (أولياء) مرتبطة بهذا المبدأ، فأصبح لكل ولي مزعوم كرامة مزعومة.. ارتبطت به من خلال هذا المبدأ.. [2]، ومن هنا تكون عودة الوثنية التي أخبر بها النبي.. بنفس صورتها الأولى، من حيث الأساليب.. ومن حيث المبادئ.. بل وبنفس شخوص الأوثان التي عبدت في البداية.. عن عائشة قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى»[رواه مسلم]، وأن هذه العودة ستكون دقيقة ومتناهية الدقة.. عن ابن المسيب: أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية» [صححه الألباني]، فتلاحظ في وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة» الدقة المتناهية في عودة الوثنية الأولى وكما كانت ظاهرة التسلل الشيطاني إلى النفس باعتبار حساب الفطرة القائمة في كل نفس.. كان هناك أمرٌ آخر.. وهو التلازم بين الشياطين والأوثان، الذي يحدث به الآثار الدائمة المباشرة في قلوب المشركين.. لإحداث المقاومة الدائمة للفطرة عند المشركين، فكان لكل صنم شيطان يحبب الناس فيه ويخوفهم منه ويجمعهم حوله.. ودليل هذا التلازم حديث قتل العزى؛ عن أبي الطفيل قال: "فتح رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى فأتاها خالد بن الوليد وكانت على تلال السمرات. فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها. ثم أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأخبره. فقال: «ارجع فإنك لم تصنع شيئا». فرجع خالد، فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها امنعوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى خبليه يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم، قال: فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فعممها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأخبره قال: «تلك العزى»[المحدث: الوادعي، حسن]، ليبلغ هذا التلازم مداه بالسحر وهو أخطر آثار القبورية. ومن الشواهد المتجانسة مع السحر كل المؤثرات النفسية المرتبطة بشرك القبور مثل الصور والتماثيل التي يصنعها النصارى كما جاء في حديث عائشة، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ مَرَضُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَذَاكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ - يُقَالَ لَهَا مَارِيَةُ- وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَدْ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ فَذَكَرْنَ مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرِهَا قَالَتْ فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تيك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة». [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ]، فلا تجد الفطرة منفذًا تتكشف به لصاحبها فيبقى على الشرك.. وإذا تكشفت في لحظة إضطرار غلبت عليه طبيعته الفاسدة واجتمع عليه شياطين الإنس والجن وأحاطوه بسحرهم وفتنتهم وشهواتهم ومنافعهم والمودة التي بينهم في غير الله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. [1] وبنفس النظرية السامرية الوثنية تصنع مقصورات أصحاب القبور.. ومن ذلك صنع البهرة (مقصورة الحسين) من الفضة الخالصة. [2] مثل أن يكون (العدوي) هو من يعيد الأبناء التائهين، وأن تكون (الباتعة) من تعين النساء في الولادة.. إلى آخر تلك المزاعم الشركية. حتى بلغ الأمر بشركهم مقاليد السموات والأرض فقالوا بمسئولية أكبر أوليائهم المزعومين (الأربعة الأقطاب) عن إدارة الكون.