مقالات مقروءة


المعني العام للإعجاز.. في علم الحديث (الجزء الثاني)


المعني العام للإعجاز.. في علم الحديث (الجزء الثاني) جاء في المقالة الأولى أن الصلة بين القرآن وعلم الحديث من ناحية الإعجاز، ترجع إلى قاعدة ثابتة في مفهوم المعجزة وهي أن تكون كرامة أولياء الأمة تابعة لمعجزة نبي هذه الأمة ولذلك كانت كرامة غلام أصحاب الأخدود تابعة لمعجزة نبيه عيسي عليه السلام فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص كما كان عيسي عليه السلام يبرئ الأكمة والأبرص. كذلك كانت العلاقة بين معجزة الأنبياء وكرامة الأولياء هي الحكمة التي جعلت البخاري يختم كتاب أحاديث الأنبياء بمجموعة أبواب تذكر الكرامات المتعلقة بأتباع الأنبياء مثل حديث المرأة التي كانت ترضع ابنها وتكلم معها في المهد وحديث المحدثين من الأمم حتى أن البخاري يذكر مع الكرامات كأثر للمعجزات أثار النبوة الأخرى مثل (كلام النبوة) الوارد في صحيحه حدثنا أحمد بن يونس: حدثنا زهير: حدثنا منصور، عن ربعي بن حراش: حدثنا أبو مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت». وكلها أحاديث تناقش شأن الأمة بعد نبيها لأجل العلاقة القائمة بين الأمة ونبيها من حيث الكرامة ومن حيث الكلام الباقي من النبوة ومن حيث التحديث بالإلهام. وكما كان القرآن معجزة هذه الأمة كانت كرامة أوليائها من طبيعة معجزاتها ذات الطبيعة الحجية والعقلية فكان أئمة الحديث وقدرتهم على الحفظ والتصنيف والشروح من الكرامات المتوافقة مع طبيعة معجزة الأمة العلمية. وكما كان التجانس بين المعجزة والكرامة ، كان التجانس بين الكرامة وعلم الحديث، فكانت كرامات واقع أهل الحديث من جنس العلم ذاته، ولذلك تميزت الكرامة في مجال علم الحديث وعلماءه بثلاثة عناصر تؤكد هذا التجانس.. ـ الرؤى و العلاقة بين الرؤى و علم الحديث هي العلاقة بين الجزاء و العمل…. فلما كان الجزاء من جنس العمل، كانت الرؤى من جنس علم الحديث لأن الاثنين إثبات وتفسير للوحي. ولذلك بدأ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بـ [الرؤية الصالحة تتحقق مثل فلق الصبح]. وقد ظلت الرؤية الصالحة مده ستة أشهر ثم كان الوحي ثلاثة وعشرون عاماً فأصبحت النسبة بين زمن الرؤية وزمن الوحي هي نصف إلي ثلاثة وعشرون أي واحد إلي ستة وأربعين. ومن هذه النسبة كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» [رواه البخاري]. لذا كانت الرؤى جزاءاً واضحاً في كرامات علماء الحديث وعلي رأسهم الأمام البخاري الذي كانت الرؤى أهم معلم في حياته؛ فمنذ البداية فقد البخاري بصره بعد أيام من ولادته فقامت أمه تتهجد وتدعو الله فَرَدَّ الله إليه بصره، ثم نامت بجوار صغيرها؛ فإذا بها ترى في منامها خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول لها بعد أن مسح بيده على وجه الصغير في الرؤيا: "يا هذه لا تبكي فإن الله يبشرك بأنه قد رد على ولدك بصره"، فقامت من نومها ونظرت في وجه الصغير فوجدت عيناه تتقلب كحبات اللؤلؤ. وكان إبراهيم هو المبشِّر في الرؤية، إذ أنه التزم وصدق ما جاء في الرؤية بذبح ابنه إسماعيل ولم يشك في كونها وحي رغم مجيئها إليه في صورة رؤية منامية فكانت أقوي دليل علي الربط بين الرؤية والوحي {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [سورة الصافات: 105]. ثم كانت الرؤية الثانية.. عندما جلس مرة في مجلس إسحق ابن راهويه فقال أحدهم لو جمعتم كتاباً فيه الصحيح من حديث النبي صلى اله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبه، فرأى رؤية: أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يسير وهو يسير من ورائه، كلما رفع رسولنا قدمه، وضع البخاري قدمه على أثر قدم النبي، فسأل أهل التأويل، قالوا: سيكون لك شأن وستجمع سنة النبي محمد صلى الله عيه وسلم. ثم رأى رؤية أخرى، عن محمد ابن سليمان ابن فارس، قال سمعت البخاري يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقيل لي أنت تذب عنه الكذب، وهكذا حتى جاءت رؤية الموت، حيث دعا ربه اللهم توفني إليك. فيقول أحد أصحابه: "رأيت في منامي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر والصحابة، قلت من تنتظرون؟، قالوا ننتظر محمد ابن إسماعيل، فلما استيقظت كانت الليلة الأخيرة في رمضان وعلمنا أن غداً أول أيام عيد الفطر، فذهبت إليه فوجدته قد مات، فمات يوم الجمعة كما ولد يوم الجمعة"، ولد ومات في خير يوم. و لذلك كانت الرؤيا من جنس الوحي، وكانت الرؤيا هي أصل الكرامة في حياة علماء الحديث تحقيقاً للتجانس بين علم وعلماء الحديث. ـ الطاعة وكرامة الرؤى التي تؤكد علي المعني القدري لحياه علماء الحديث تمتد إلي كرامة الطاعة الشرعية… لتكون الكرامة في حياة علماء الحديث… قدرية وشرعية… ولذلك كانت أول أوجه الإعجاز هو علماء الحديث أنفسهم، ومن هنا كان امتلاء واقع علماء الحديث بالطاعة التي بلغت حد الكرامة مثلما كانت الرؤى، ابتداء من كمال الطاعة حتى بلغت أن تكون أهم منطلقات علم الحديث نفسه وهذه هي العلاقة بين كرامة الطاعة وعلم الحديث. ونعود إلي البخاري لتفسير علاقة التجانس بين علم الحديث وحياة علماءه من حيث الطاعة وذلك عندما أرسل إليه أمير بخارى يأمره أن يأتي إلى قصره يعلمه ويعلم أولاده، فبعث إليه يقول: "إني لا أذهب بالعلم إلى أبواب السلاطين، إن كنت تريد علماً فأتني في مسجدي أو في بيتي، وذلك اقتضاء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن» [قال الألباني حسن صحيح]، فكانت هذه هي الطاعة التي نشأ بها مصطلح "يتبع السلطان" في علم الجرح والتعديل مثلما أورده الطبراني : عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطعم مؤمناً حتى يشبعه من سغب أدخله الله باباً من أبواب الجنة لا يدخله إلا من كان مثله" [ضعفه الألباني وقال ضعيف جدا]، رواه الطبراني في الكبير وفيه عمرو بن واقد وفيه كلام، وقال محمد بن المبارك الصوري: كان "يتبع السلطان" وكان صدوقاً (مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي). ولعلنا نلاحظ أن عمرو بن واقد الذي جرحه بن المبارك "كان صدوقا" ولكنه جرح لأنه كان "يتبع السلطان". ولقد كان من كمال الطاعة أن كان الالتزام بعلم الحديث هو حياتهم حتى موتهم، فتذكر كتب الحديث أن أبي حاتم الرازي -وهو من تلاميذ البخاري- عندما كان في موته وأراد أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله قال: حدثنا فلان أنه قال حدثنا فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ثم مات. وبهذه الطاعة كان منطلق هذا العلم عند العلماء حتى بلغ مقام الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت طاعتهم مرتبطة بروايتهم. عن أبي الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال يحكم بين الناس [قال الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم]، قال يزيد وكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلا تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا.‏ ـ الحفظ وامتداداً للتجانس بين علم الحديث وحياة العلماء والطاعة كان الحفظ أثراً لهذه الطاعة ومن جنسها، حيث أن الجزاء من جنس العمل ، والعلم جزاء الطاعة بدليل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [سورة محمد: 17]، وقوله عز وجل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [سورة مريم: 76]، وقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 282] فمن اهتدى زاده الله هدى وزاده علما وتوفيقا. ومن هنا كان قول بعض السلف رضي الله عنهم: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". فكان لهذه الطاعة بركة ، وكانت آثار هذه البركة متجانسة هي الأخرى مع العلم الذي أطاعوا الله فيه، فتمثلت الآثار في القدرة التي بلغت حد الكرامة على تحصيل العلم وحفظه، ومثاله البخاري إمام المحدثين. فكانت أهم هذه الآثار هي الكتب والتلاميذ، حيث كان من كتبه: الجامع الصحيح، التاريخ الكبير، التاريخ الأوسط، التاريخ الصغير، كتاب الكنى، كتاب الضعفاء، كتاب خلق أفعال العباد، كتاب الأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة والقراءة خلف الإمام، وكان من تلاميذه أئمة علم الحديث: الإمام مسلم، الإمام الترمذي، الإمام النسائي، الإمام الدارمي، الإمام أبو حاتم الرازي، الإمام النسفي، الإمام ابن خزيمة، وقد سمع عنه تسعون ألف رجل. وكما استوعب معني الكرامة حياه علماء الحديث ..استوعب معني الكرامة حياه الأمة حتى تعلق وجود الأمة قدراً بهذا العلم ابتداء من مصطلح (الجماعة) وانتهاءاً بأعلى المصطلحات السياسية للأمة. فمن حيث مصطلح الجماعة حدثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة بن سعيد. قالوا: حدثنا حماد (وهو ابن زيد) عن أيوب. عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» وليس في حديث قتيبة (وهم كذلك). (طائفة) قال البخاري: "هم أهل العلم". وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم!". قال القاضي عياض: "إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذاهب أهل الحديث". ومن حيث المصطلحات السياسية للأمة جاء مصطلح (أمير المؤمنين) ومصطلح (الحاكم) في علم الحديث حيث يذكر لنا علم الحديث المصطلحين. فيقول: "أمير المؤمنين": هو الذي تفوق على من سبقه في علم الأحاديث ومعرفة عللها حتى أصبح مرجعاً لكل من جاء بعده. و "الحاكم": هو من تمكن من معرفة جميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا القليل. وقد جاء تعريف الجماعة بأنهم أهل الحديث من باب تسمية الشيء بما لا يقوم إلا به. وفي ذلك يقول الإمام النووي: "يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض". ولعلنا نلاحظ أن الإمام النووي قد ذكر الشجعان المقاتلين في أول أنواع المؤمنين المحققين لمصطلح الجماعة. ولذلك كان الجهاد هو أول الأصول التي تقوم بها الجماعة، ومن هنا توافق واقع علم الحديث في هذا المعني مع واقع الجهاد؛ فلا تجد واقعاً متميزاً بالكرامات مثل واقع الجهاد وعلم الحديث حيث أن قيام الأمة قدر محتوم من الله بهما تقوم وتبقى. وقد تحقق الارتباط بين (الجهاد) و(علم الحديث) من خلال عدة عناصر: 1ـ الارتباط التاريخي. 2ـ الارتباط المنهجي. 3ـ الارتباط الواقعي. أما دليل الارتباط التاريخي فهو أن أول من جمع الحديث الربيع ابن صبيح وهو مجاهد صالح، توفي غازياً في بحر السند سنة مائة وستين ودفن في جزيرة، وله ترجمة في تهذيب التهذيب. أما دليل الارتباط المنهجي فهو قيام علم الجرح والتعديل علي الأصليين الذين تقوم بهما الجماعة، وهما الجهاد والبيعة ؛ حيث اجمع العلماء على أن البدريين والذين شهدوا بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار هم أعلى طبقات المحدثين، فكانوا: ـ البدريين المهاجرين الذين حضروا بيعة الرضوان. ـ البدريين الأنصار الذين حضروا بيعة الرضوان. ـ البدريين المهاجرين. ـ البدريين الأنصار. ـ المهاجرون ممن حضروا بيعة الرضوان. ـ الأنصار ممن حضروا بيعة الرضوان. وأما دليل الارتباط الواقعي فهو اصطباغ علم الحديث من حيث التصنيف بصبغة الأمة الحياتية باعتبار أن الحديث هو الأحكام التطبيقية والواقعية في حياة الأمة وأن الجهاد هو قضية الأمة الأساسية فأصبحت هذه القضية صبغة ظاهرة في كُتب الحديث. وقد جاء الدليل علي العلاقة بين علم الحديث والجهاد من خلال منهج التصنيف عند البخاري حيث كان كتاب (الغزوات) من أكبر كتب الصحيح. ثم تبعه (كتاب الجهاد) ثم كتاب (فرض الخمس) وهو مرتبط بالجهاد، بكل أبوابه، يضاف إلى ذلك كتاب (صلاة الخوف) الذي تناقش كل أحاديثه أحكام الصلاة في القتال بكل أبوابه ،ولهذا الأمر دلالته الواضحة والمثبتة لعلاقة علم الحديث بقضايا الجماعة ومقتضيات قيامها وامتدادها. ولذلك ملأت مصنفات علم الحديث العبارات الدالة علي هذه الحقيقة فيقول سفيان الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟!".. ولذلك أيضاً يقول ابن الصلاح في (المقدمة): "وأن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وانفع الفنون النافعة يحبه ذكور الرجال وفحولتهم". عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» [قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، صحيح سنن الترمذي - (5 / 257)]. ومن هنا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين لنا كيف يكون حفظ الأمة بعد النصر والفتح بحفظ المسلم بتقوى الله، وحفظ واقع الأمة الممكنة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الوحي بعلم الحديث الذي يمنع الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجمع الحديث كل أسباب الحفظ بصورة إعجازية في حديث واحد. وبذلك كان لعلم الحديث فاعلية الوحي بحيث يمكن أن نقول أن أول حقائق القوه المقدرة لهذه الأمة كامنة في هذا العلم.