طلب الاعتذار.. بدعة نصرانية وضلالة سياسية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد.. كان من أهم نتائج التحريف المستمر للعقيدة عند النصارى .. ظاهرة التقلب التاريخي الفكري والسياسي للأمة النصرانية.. وقد بلغ التقلب أشد درجاته وأعمق أبعاده في صراع البابوات باعتبارهم الممثلين الشخصيين الفكريين والسياسيين للعقيدة النصرانية المتقلبة.. ولعل المثال التاريخي على ذلك هو محاكمات آباء الفاتيكان القائمين للآباء السابقين، حتى أنه في عام 897 أخرج ستينان غريمه فوموسوس (الهيكل العظمي) من قبره !!، وحاكمه لمدة ثلاث أيام، وحكم عليه فيها بقطع ثلاث أصابع من أصابعه التي كان يمنح بها البركة.. ثم حدث تقلب سياسي نتيجة خلافات مذهبية، عُزل ستينان على إثرها، وقتل خنقا بسبب إخراجه لجثة فوموسوس، بعد وصول الاتجاه المؤيد لفوموسوس إلى البابوية، ثم أخرجت جثة فوموسوس مرة أخرى بعد عشر سنوات ( نفس الهيكل العظمي) ـ بعد تقلب آخر ـ وحوكم مرة أخرى، وحُكِم عليه فيها بقطع رأسه، وأُلقيَت الجثة في البحر بعد وصول الاتجاه المعارض لفوموسوس لكرسي البابوية مرة أخرى..!! والتقلب المذهبي هو تحول الخطأ إلى صواب أو الصواب إلى خطأ ـ بحسب الهوى والتحريف والابتداع على مر هذا التاريخ ـ وما يرتب عليه من أحكام وأحداث، مما أنشأ ظاهرة الاعتذار كآلية موازية للمحاكمات في مواجهة التقلب التحريفي التاريخي الدائم للعقيدة النصرانية..والإنتقال بين توهم الخطأ والصواب حتى أصبح هذا التقلب أشد ظاهرة تميز هذه الأمة. وأصبح أسلوب المحاكمات والاعتذارات عند النصارى ضروريا لتوجيه التاريخ وتثبيت أي تقلب طاريء، ولكن أسلوب الإعتذار كان أشد ظهورا وأكثر ممارسة لإن فكرة الاعتذار نابعة من روح نصرانية ناشئة عن سر الاعتراف، فكما ينهي الاعتراف الذنب عندهم كذلك يفعل الاعتذار، مما جعل فكرة الاعتذار فكرة محورية في تاريخ النصرانية ! وكناتج منطقي امتدت الظاهرة من التقلب الفكري والمذهبي إلى واقع الممارسة السياسية الصليبية القائم الآن، باعتبار أن هذا الواقع هو الامتداد التاريخي الصليبي المتقلب. ولم تقف الظاهرة عند حد الممارسة الصليبية بل تسللت إلى الواقع الإسلامي ، حيث فرضتها السياسة الصليبية الماكرة في سياق ضعف هذا الواقع ، لتتحقق عدة أهداف، كان أخطرها: تفريغ الإحساس بالعداء تجاه هذه الجاهلية الصليبية من ضمير المسلم وعقله، وذلك بالاعتذار عن المواقف المعادية للإسلام والتي تمثل أكبر منابع الشعور اللازم بالعداء لمواجهة أصحاب هذه المواقف. فكانت خطة تجفيف هذه المنابع الشعورية ليفقد المسلمون مشاعر العداء التي يجب أن تبقى، ليحفظ المسلمون عقيدتهم الباقية ببقاء العداوة بينهم وبين كل من حارب الإسلام، وأراق دماء أهله.. وكان من أخطار تسلل هذه الفكرة إلى الواقع الإسلامي ..سلبية التعامل مع المواقف العدائية، وقطع الطريق على إدراك حقيقة هذا العداء ومواجهته؛ حيث لا تكون تلك المواجهة.. إلا في مسافة طلب الاعتذار ! كما كان من أخطار هذه الفكرة.. الخروج الصريح عن الشرع تجاه المواقف المعادية، مثل طلب الاعتذار عن سب الرسول ﷺ رغم الحكم الشرعي في سب الرسول ﷺ الثابت في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين( ). ومن هنا كان اختراق القوى المعادية لواقع الأمة، حتى تستل هذه العداوة من قلوب المسلمين وتمنعهم من المواجهة الصحيحة لأعداءهم بعد الإبتعاد بهم عن شرع ربهم من خلال توجيههم إلى فكرة «طلب الاعتذار» ، وهي فكرة فارغة ليس لها أي معنى، ورغم ذلك استقرت في العقل المسلم حتى أصبح التوجه إليها تصرفاً تلقائياً معتاداً كلما حدث موقف معادٍ للإسلام، ليكون طلب الاعتذار جزءاً من خطة معاداة الإسلام ذاتها.. وليس أدل على غرض الأعداء من هذه البدعة من أن يكون توجيه الأمة إليها في المواقف التي يتجذر فيها شعور العداء بصفة تاريخية متوارثة، مثل طلب الاعتذار من منظمة المؤتمر الإسلامي عن الحروب الصليبية التي سالت الدماء فيها حتى الركب، وكذلك مطالبة فرنسا بالاعتذار عن حرب الجزائر التي قتل فيها مليون مسلم، وكان التعذيب فيها بأبشع الأساليب، وهُتكَت فيها أعراض المسلمات، ثم يأتي من يطالب بالاعتذار لإلغاء تلك الأهوال التي يعجز عن وصفها البشر..! وفي سياق الظاهرة تتوالى طلبات الإعتذار فكان أحدثها طلب الإعتذار الصربي عن مجزرة سربرنيتشا البوسنية التي قتل فيها 12000مسلم !! وبذلك أصبحت بدعة طلب الاعتذار ثقباً من الثقوب السوداء التي تبتلع كرامة الأمة بكل قيمها ومبادئها. ولعل المطالبة المشهورة للفاتيكان بالاعتذار عن التهجم على الإسلام من المواقف التي اجتمعت فيها كل أبعاد البدعة .. ـ وكان أخطر هذه الأبعاد ...هو جهل النخبة المطالبة بالاعتذار بأن مغزى سب بنديكت للإسلام، جاء في سياق خطة تاريخية للحرب على الإسلام وتنصير العالم، قائمة الآن وعلى أشدها بكل إمكانياتها البشرية والفكرية والاقتصادية والعسكرية للحرب على الإسلام وتنصير المسلمين لفرض المسيحية على العالم قبل حلول عام 2010، وهو التاريخ الذي كان قد حدده مجلس الكنائس العالمي حينما أسند إلى الولايات المتحدة مهمة اقتلاع الإسلام، بعد أن فشل مخطط البابا يوحنا بولس الثاني في تحقيق ذلك، عشية الألف الثالثة، حتى تبدأ الألفية الجديدة وقد تم تنصير العالم !!. ثم يأتي طلب الاعتذار عن «الخطة التاريخية العالمية» ببياناتها المعلنة..( )، بعد أن اختزلها أصحاب الطلب في طلب الإعتذار عن كلمة التهجم التي وقعت على لسان بابا الفاتيكان ! كما كان من أخطار هذه البدعة أن تكون المطالبة.. من واقع الإحساس بالوهن والهزيمة النفسية أمام أعداء الإسلام. فالمطالبون بالاعتذار فعلوا ذلك طمعًا في أن تكون لهم مكانة اليهود عند الفاتيكان؛ حيث اعتذر الفاتيكان لليهود -دون طلب منهم- عن عقائد ومواقف تاريخية للنصرانية ، مثل الاعتذار عن صلب المسيح الذي يؤمنون به ! ولما كان من المستحيل أن يساوي الفاتيكان بين اليهود والمسلمين.. لم يستجب الفاتيكان لتلك المطالب وقد كان من الممكن توجيه عقول هؤلاء المطالبين إلى المطالبة بالاعتذار، ثم تكون الاستجابة لمطالبتهم اكتفاءً بإيقاعهم في جريمة المطالبة، ولكن أعداء الإسلام ضاعفوا إذلال هؤلاء الناس برفضهم الاستجابة لمطالبتهم.. حتى ولو بمجرد الكلام !! وبذلك تم اختزال مكانة الأمة في موقف الطلب ورفض الطلب، والثبات على موقف العداء للإسلام، وعدم المساس بتاريخ هذا العداء..! وإذا اقتربنا من ظروف مطالبة بابا الفاتيكان بالاعتذار عن سب الإسلام، نرى أنه تم الإعلان عن مبادرة «إسلامية» لمعالجة المشكلة مع الفاتيكان ! فتم تكوين وفد من 138 عالم ومفكر ( ) (!) ليطالب بالكلمة السواء، دون أن يذكر أن الكلمة السواء الواردة في الآية هي: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64]. ولكن الوفد يعلن عن رغبته في إقامة حوار للأديان مع الفاتيكان، في الوقت الذي لا يعترف فيه الفاتيكان بالإسلام كدين سماوي أصلاً ! طلب اعتذار.. وحوار.. لا تفسير لهما إلا الوهن أو العمالة ! ثم تكون المفاجئة.. وهي أن يعيب الفاتيكان على أصحاب المبادرة أنهم لم يشيروا إلى الفرق بين الإله الواحد عند المسلمين، والثالوث عند النصارى!! أصحاب عقيدة التثليث هم الذين يفاصلون على لسان الأب ترولّ الجزويتى، حيث يقول: «إن الخطاب لم يشر إلى الخلاف السحيق بين مفهوم الله عند المسلمين والله الثالوث عند المسيحيين وابنه الذي تجسد بشرا»( ) ..!! النخبة «الإسلامية» تفرط في قضية التوحيد، والفاتيكان هو الذي يفاصل في قضية التثليث وبذلك كانت بدعة طلب الاعتذار من أخطر الأساليب الجاهلية في مواجهة الإسلام بفرض الزعامات على واقع المسلمين، مثلما فُرِضَ وفد طلب الاعتذار والحوار على الأمة ! وما تبع ذلك من تسليم الأمة للجهة التي تجاسرت وطالبت بالاعتذار؛ ليصبح معروفًا أن هذه الجهة صاحبة الطلب هي التي تمثل الموقف الإسلامي في المواجهة. وهي من يملك النيابة عن الأمة في أمر دينها وتاريخها. ثم يفرض الفاتيكان مطالبه ويطالب بتنفيذ هذه المطالب الآن.. وفورا ! فيقول أن خطاب الـ 138 مائع وأخرس، أي لا يقول شيئاً حول نقاط حقوق الإنسان والحرية الدينية، أي إباحة التنصير والارتداد علناً، والمساواة بين الرجل والمرأة، ولا عن فصل الدين عن الدنيا ! ويستطرد هذا الـ «ترول» قائلا أن المسلمين حاليا يقومون بعملية جمود حيال قيم الغرب.. ثم ينتهي مقاله الاستفزازي الكاشف عن نفوس وضمائر أبعد ما تكون عن الحيدة والتسامح الذي يطالبون به، بجملة ترويعية، توضح بصريح العبارة ما ينتظر المسلمين إذا ما تخلفوا عن تنفيذ قرارات «قداسة» البابا بنديكت السادس عشر.. وهي: «أنه سوف يتم دك الغرور القومي الحالي للحضارة الإسلامية، إما عن طريق حرب يشنونها بحيث يخسرها المسلمون، أو أن يتم فرض عملية ارتداد جماعية علي المسلمين واقتلاعهم من دينهم».. ( ) لقد جعلت الجاهلية رفض الاعتذار موقفا مبدئيا تعلوا فيه قيمهم الكافرة على مبادئ الإسلام، مثلما رفضت الدانمرك الاعتذار عن الإساءة إلى الرسول r، فأعلنت الحكومة الدانمركية أنها لا تملك ذلك، لأن حرية التعبير أمر مقدس لا يمكن المساس به، في الوقت الذي يتنازل فيه المطالبون بالاعتذار عن الحكم الشرعي في الإساءة إلى الرسول r ! وبذلك أصبحت بدعة طلب الاعتذار ثقباً من الثقوب السوداء التي صنعتها الجاهلية لتبتلع كرامة الأمة بكل قيمها ومبادئها..! ومثل غموض الفعل يكون غموض الفاعل؛ حيث تصبح النخبة -النكبة- التي تتكلم باسم الإسلام وتمثله في المواجهة لا تقل خطراً عن الفاتيكان نفسه ! وهذا الخطر امتداد آخر لأثر الإرجاء والفكر المائع ا؛ حيث تأتي المطالبة من فئة موالية لأعداء الله ممن يتم تقديمهم للناس على أنهم «علماء مسلمون».. لقد كانت جريمتنا يوم سكتنا عن الأسماء والمناصب الكاذبة ولم نتكلم فيهم وفي أمثالهم، ولم نضع حديث رسول الله ﷺ بين أعيننا لما قال: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَمَرَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِنَّ: الْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قَيدَ شِبْرٍ.. فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَ الإِسْلاَمِ مِنْ رَأْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يُرَاجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَةَ جَاهِلِيَّةٍ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ». قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟! قَالَ:« نَعَمْ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِم، فَادْعُوا بِدَعْوَةِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ بِهَا: الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ »( ). إن الذي يمثل الأمة هم خيارها وليس شرارها، الذين لا يقبلون الدنية في دينهم ولا يؤمنون إلا بالمفاصلة على الحق والتصور الإسلامي الصحيح.. أما قضايا الأمة العقيدية والمصيرية فإن الأمة كلها لا تملك حق التفاوض فيه -ولو اجتمعت عليه- لأن هذا الحق لا يكون إلا لله وحده هو الذي يفصل بين العباد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.