مقالات مقروءة


افتراضات التدافع بين الحق والباطل


افتراضات التدافع بين الحق والباطل بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد: هناك عدة حقائق هامة في إطار مفهوم التدافع بين الحق والباطل: أولاً: الاعتقاد بأن العداء بين الحق والباطل ليس حقيقة مستنبطة من دراسة الواقع أو تقييم الظروف ولكنه حتمية قدرية منهجية نؤمن بها ونلتزم مقتضاياتها بمجرد الإيمان بالحق والكفر بالباطل. ثانياً: أن القوة هي المضمون الأساسي لهذا الصراع وأن كل أبعاد الصراع الأخرى يجب أن تكون باعتبار هذا المضمون: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] "فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله، وبأن أوجَد في عقولهم إدراكاً للتمييز بين الصلاح والفساد، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين" [التحرير والتنوير- (ج 9 / ص 137)]. ثالثاً: أن المعنى الأساسي لظهور الحق على الباطل هو الثبات عليه، وأن ثبات أهل الحق هو شرط تفعيل كل أساليب وأدوات إزهاق الباطل ولذلك يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18]. ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطلَ عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح، قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً} إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [سورة الرعد: 17]. رابعاً: أن الحق واحد وأن مقتضى ذلك هو أن يمثله في العداء مع الباطل طرف واحد، والباطل متعدد يمثله أطراف متعددة، وأن العداء يكون بين هذا الحق الواحد وجميع أطراف الباطل المتعددة، وأهل السنة القائمين على عقيدة التوحيد هم الطرف الذي يمثل الحق في هذا الصراع وأي طرف لا يقوم على تلك العقيدة لا يدخل في هذه الافتراضات، وأن التدافع وهو المواجهة العملية بين أطراف العداء يقوم في الواقع بعدة افتراضات: الافتراض الأول: وهو قيام التدافع بين طرف الحق الواحد وأحد أطراف الباطل، وهذا التدافع هو المتوازن منهجياً، والمقتضى العملي لهذا الافتراض هو التفريق بين واجب إثبات العداء لجميع أطراف الجاهلية منهجياً وفكرياً وبين إمكانية المواجهة العملية لأحد هذه الأطراف فنحن نعادي جميع الأعداء تصوراً واعتقاداً ولكننا نواجه في حدود إمكانياتنا العملية فنختار في تلك الحدود أنسب اتجاهات العداء وأطرافه، والأساس في معنى الآية هو قتال الأقرب إلى دار الإسلام، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]. يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: 4/237أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأولاً الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب. وفي حالة عدم قيام حوزة للإسلام وتعدد مواقع الصراع يكون الأقرب خطراً من الإتجاهات المعادية للدعوة هو الإتجاه الواجب التعامل معه ومواجهته، والربط بين الأقرب إلى حوزة الإسلام والأقرب خطراً هو أن الأقرب إلى حوزة الإسلام هو نفسه الأقرب خطراً ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب: "سارت الفتوح الإسلامية, تواجه من يلون"دار الإسلام"ويجاورونها, مرحلة فمرحلة. فلما أسلمت الجزيرة العربية- أو كادت ولم تبق إلا فلول منعزلة لا تؤلف قوة يخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة- كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم. ثم كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس, فلم يتركوا وراءهم جيوباً ; ووحدت الرقعة الإسلامية, ووصلت حدودها" [في ظلال القرآن]. فيتبين أن محاربة الأقرب كان من أجل الخشية منهم على الإسلام، وقد يتغير هذا الاتجاه حسب الظروف والأحوال ولكنه دائماً هو الاتجاه الذي يمثل الخطر الأقرب علي الدعوة، فقد يكون طرف العداء الأولى بالمواجهة هم الصليبيين في مكان والشيوعيين في مكان آخر وهكذا. الافتراض الثاني: وهو قيام التدافع بين طرف الحق الواحد وجميع أطراف الباطل، وهذا التدافع هو الذي يتحقق توازنه بصورة قدرية مباشرة لحفظ الحق الواحد أمام اجتماع أطراف الباطل، وهذا التدخل هو سنة هزيمة الأحزاب. والمقتضى المنهجي لهذا الافتراض هو محاولة فك الارتباط بين أطراف الباطل المجتمعة، ولعل أبرز مثال لذلك ما فعله نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب حيث أوقع بين اليهود في المدينة ومشركي مكة بعد أن استأذن النبي صلي الله عليه وسلم في ذلك فأذن له قائلاً: «خذل عنا إن شئت»، وجميع أطراف الباطل المتعددة تقوم على معاداة الإسلام ولكن بمضمون نفعي دنيوي، وتعارض مصالح أهل الدنيا أمر حتمي ومن هنا ينشأ الصراع بين الأطراف المتعددة للباطل، وهذه الحقيقة تمنع المسلمين من الوقوع أمام الهزيمة النفسية أمام الكثرة الجاهلية المعادية للدعوة، لأنهم ليسوا على شيء، وأنهم معادون لأنفسهم ولا يكون لهم اجتماع إلا على الإسلام، وأن إجتماعهم على الإسلام يدفعه الله بقدره، وإذا كان الدعاء هو أساس النصر في كل أحوال المواجهة, فإنه في هذا الافتراض يبرز بصورة أوضح وأكبر, وذلك باعتبار أن الأمر هنا هو تدخل قدري، و لهذا كان ذلك الدعاء المعروف عن رسول الله صلي الله عليه وسلم: «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب, وهازم الأحزاب أهزمهم انصرنا عليهم» [كما في صحيح البخاري في كتاب الجهاد باب الدعاء علي المشركين]. الافتراض الثالث: وهو قيام التدافع بين الأطراف المتعددة للباطل وهو التدافع المحقق للتوازن بين الحق والباطل باعتبار أن هذا التدافع يحقق اختصاراً لأطراف الباطل ويهيئ الواقع لصالح طرف الحق. وأوضح الأمثلة هو القتال الذي كان قائماً بين الروم والفرس. والمقتضى المنهجي لهذا الافتراض هو نفس ما جاء في القرآن الكريم بالنسبة للقتال الذي كان دائراً بين الروم والفرس وهو المتابعة والتقييم: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم2: 4]. وهذا المثال دليل على التقييم العقيدي لأطراف العداء حيث كان الفرس أشد عداء من الروم المنتسبين إلى أهل الكتاب، وهذه القاعدة تتطلب منا أن نملك التصور السياسي للواقع العالمي؛ لكي نتمكن من المتابعة الصحيحة والتقييم الصحيح للقوى العالمية وعلاقتها، والأحداث التي تكون بينها، وأثر ذلك كله علي واقع الدعوة الإسلامية بصورته المباشرة وغير المباشرة، ومن المثال التاريخي البعيد (الروم والفرس) إلى المثال التاريخي القريب وهو الحرب العالمية الأولى والثانية التي أنهكت القوى الجاهلية المعادية، وكذلك الحروب الأهلية الأمريكية وكذلك الحروب المذهبية بين الطوائف النصرانية وغيرها كثير التي نفهم من دراستها أن المسلمين يحاربون الآن بقايا هذه القوى. وليكن مفهوماً أن هناك حقيقة خطيرة في المقتضى المنهجي لعلاقة الصراع بين أطراف الباطل وهي أن موقف أصحاب الدعوة الصحيح هو الذي يحقق آثاراً جوهرية في أحداث العالم؛ وذلك بصورة قدرية خالصة وتامة؛ وهذا لأن صواب موقف أصحاب الدعوة هو الذي ينشيء استحقاقهم للنصر والغلبة، وأن نشأة هذا الاستحقاق تعني تهيئة ظروف العالم وواقعة لحدوث هذا النصر؛ وتلك الغلبة وهذا ما فهمه الصحابة من دلالة انتصار الروم علي الفرس. الافتراض الرابع: تعدد الحق في أطراف مختلفة (يعني واقع الفتنة). وهذه الحالة تفرض علينا أن نعرف كيف يتم التدافع بين الحق بتعدده في الأفهام واختلاف مواقف أصحاب الدعوة في مواجهتهم للجاهلية، فيجب تحديد طرف الدفع الإسلامي المعتبر في المواجهة، ومن هنا يلزم كضرورة للمواجهة تحديد الإطار الفكري لتحديد الكيان الصحيح للمواجهة، والإطار الأساسي لهذا التحديد هو قضايا حد الإسلام "قضايا الحكم والنسك والولاء". ويضاف إليها كل قضايا الفكر المستفادة من خبرة التحرك بقضايا حد الإسلام في الواقع، وقد سبق تقرير أن الفكر في تطوره مع الحركة مستفاد من خبرة الحركة وأن تحديده يكون باعتبار أصحابه؛ فيصبح أي فكر ناشئ عن خبرة عملية مستفادة من مواجهة صاحبه مع الجاهلية.. داخلًا في إطار الفكر الحركي. وكما تحدد الإطار الفكري للكيان الصحيح في المواجهة يتحدد الإطار الحركي، والإطار الأساسي لهذه الحركة هو التبليغ بالكلمة واستخدام القوة وقيام السلطة؛ وبذلك يتحدد إطار الحركة الصحيحة التي تنشأ من خلالها العلاقة الجدلية الصحيحة مع الفكر. ومعنى هذا التحديد: أن أي كيان لا يتبنى أسلوب التبليغ وإقامة الحجة ورفع الالتباس وتصحيح المفاهيم وأسلوب المواجهة القوية الهادفة إلى إقامة السلطة الإسلامية.. أي كيان لا يتبنى هذه الأساليب يكون خارجًا عن إطار التحديد السياسي للحركة... أما ماورد عن قتادة في القرطبي فهو الذي يمثل أساساً تصورياً عاماً للتدافع ففي تفسير الآية: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] وهو قوله: "والحقّ كتاب الله القرآن، والباطل: إبليس، فيدمغه فإذا هو زاهق: أي ذاهب". طرفي الصراع هما الحق "القرآن" أمام الباطل "إبليس".