الحملة الصليبية مضمون وأبعاد الحملة القائمة جزءٌ من واقع الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية.. لا يجوز تجاهله في إطار واقع الصراع بكل أبعاده، ولا يجوز تضخيمه على حساب أبعاد الصراع الأخرى.فهو صراع واحد بين الإسلام بتصوره الكامل، والجاهلية بعقائدها الفاسدة..من هذا المفهوم تنطلق حقائق منهجية هامة، لعل أهمَّها: حقيقة الأساس الديني للصراع، حيث كان الذين لا يفهمون طبيعة الصراع ينكرونه دائمًا، حتى ظلت أجيال متوالية تفسر الصراع بغير هذه الحقيقة، وظلوا يفسرون الحرب على الإسلام بتفسيرات ومصطلحات كاذبة: مناطق النفوذ.. السيطرة على منابع النفط والمواد الخام.. الإجراءات الوقائية.. الأحزمة الأمنية.. إلى آخره. وجاءت الحملة الصليبية القائمة لتكشف هذا الكذب المستمر، وأن الإسلام في حسابات هذا الصراع كان دائمًا هو المحور.. والقضية.. والهدف.. وإعلان الحرب العالمية على الإسلام في هذا التوقيت - بالمضمون الديني - له معنى هام، وهو أن هذه الحرب ستكون بداية الظواهر المرتبطة بآخر الزمان حتى حدوث الملحمة التي ستكون بين المسلمين والصليبيين كما أخبر رسول الله، لتكون هذه الظواهر أبعادًا نهائية لهذه الحرب التي ستُقَسِّم العالم على المدى الزمني البعيد إلى فسطاطين: فسطاط كفر لا إيمان فيه، وفسطاط إيمان لا كفر فيه، وهي علامة للساعة. ومن هنا كانت الحرب على الثوابت في العقيدة، والمقدسات في الدين -التي أصبح مجرد الحفاظ عليها قبضًا على الجمر- تفرض علينا الحذر من اختزال الصراع في مجرد المواجهة الفكرية وأساليب المناظرات والمناقشات، بل يجب إعطاؤها كل أبعاد الصراع مع الجاهلية، لتكون المواجهة مناسِبة للحرب بكل أبعادها وأخطارها..وهذا الفهم هو الذي يقينا شرَّ الغفلة عن الخطة الحقيقية لأعدائنا، حيث يمارسون معنا محاولات رهيبة لتوزيع مناطق الصراع، وتمييع قضايا الصراع، وترتيب الأدوار.. فالحرب الآن موزعة على كل أنحاء العالم الإسلامي ليتوزع الإحساس بالدم المسلم على كل المواقع، فيغيب الشعور بالمذبحة العالمية..! والحرب الآن.. ليست تحت أسوار القدس، ولكنها ذهبت إلى كل موقع من مواقع العالم الإسلامي يمكن أن يأتي منه من يريد الوقوف تحت أسوار القدس.والحرب الآن لا تقتصر على الجانب الفكري أو السياسي أو العسكري، بل تتعداها إلى كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ليعيش المسلمون معاناة البحث عن اللقمة.. تحت خط الفقر المنسي، ومعاناة الضياع الاجتماعي.. الذي يؤدي إلى الانحطاط والدعارة والمخدرات، ومعاناة الأمراض والأوبئة.. التي تقتل الأمل في حياة طبيعية..إن فرض الفقر على العالم المنتسب للإسلام يأتي بهدف المساومة تحت خط الفقر الشديد على الدين والعقيدة، ليكون هذا الفقر مقدمةً اجتماعيةً على المدى الزمني البعيد لظهور الدجال، الذي سيأتي ومعه جبال الخبز لمن يؤمن به، حتى أصبح الرافض لبيع دينه بعرض من الدنيا علامةً من علامات الاستفهام، وأصبح عند باعة الدين والقيم موقفًا لا تفسير له..! نقول ذلك ليفهم الناس أن هذه الحرب ليست حدثًا عارضًا؛ بل هي خطة قديمة موضوعة بإحكام، وضع فيها الشيطان كل إمكاناته وسلطاته ليقطع الوجود التاريخي للأمة المسلمة.الحرب الآن.. ليس فيها عملاء معدودون مثل «شاور» و«العلقمي»، بل هي حرب العملاء.. العملاء أغنياؤها وقادتها..الحرب الآن.. قتلاها كثيرون ولكن ليس بالسيف القديم، بل باليورانيوم المنضب، وأغذية السرطان والأوبئة، ونشر الفقر والمجون.وقد لا يتصور البعض أن الحرب الصليبية العالمية على الإسلام قائمةٌ فعلًا، بتأثير الصورة النمطية القديمة للحروب الصليبية التي تسيطر على مخيلتهم، فما من سفنٍ رُسِمَ على أشرعتها الصليب الضخم ترسو على الشواطيء الإسلامية، وليس هناك فرسان للمعبد فوق الخيول.. لأن الحرب الآن يُرَاعَى فيها البُعدُ عن استفزاز الشعور الإسلامي قدر المستطاع؛ لأنهم يعلمون ما تعنيه يقظة هذا الشعور..! ومن أجل ذلك تتوزع الأدوار.. ليحقق دورٌ الهدف، ويخفف آخرُ من أثره، ويشتِّتُ ثالثٌ مَنْ يستيقظ..!على مستوى الدولة الواحدة الداخلة في الحرب: يكون هناك الحزب المحارب، والحزب المعارض للحرب..وعلى مستوى الأحلاف: تكون هناك الدولة المحاربة، والدولة المعارضة للحرب.. ليصبح الرجاء في القتلة، والأمل في الأعداء. وإذا كانت الحرب بهذه القسوة، وتلك الشراسة.. فإن المواجهة لابد أن تتناسب معها..فإذا كان الإنسان هو محور هذا الصراع وغايته.. فلابد أن يكون هو محور المواجهة وغايتها..فموجات الانحلال العارمة لا يمكن مواجهتها بمجرد الكلام عن الأخلاق مع إنسان مغمور في تلك الموجات التي تقذف به في كل إتجاه..وإخراج الإنسان من نطاقها لا يعني إلا التأثير فيه بصورة لا تقل عن قوة الغريزة التي تصرخ في كيانه، ليعيش قضيته أقوى مما يعيش غريزته، وينتمي بقوة إلى كيان يحميه، برغبة لا تقل عن رغبة الاحتضان الغريزية في الإنسان. ولابد من استيعاب كيان من نحاول إنقاذه بحيث لا يبقى في هذا الكيان أي بقية لغير القضية، ويعيش حياة الزهد في الدنيا والشهوات، بحيث لا تؤثر فيه أي محاولة إغراء..فليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنَى النفس. ومع هذا المعنى التربوي.. يجب التأكيد على أهمية الصدقات والزكاة لسد حاجة الفئات الفقيرة والمحتاجة، لتكون المواجهة الكاملة لشهواتها وشبهاتها، ويكون إنقاذ المسلمين من المؤامرة، فيؤمن الناس بالحق ويموتوا عليه. وهذا الحصار الذي تعيشه الدعوة من عصابة الدجال يفرض على أصحابها أن يتعاملوا مع المرحلة بمنطق «الشهادة في سبيل الله»، فنحن الآن في زمن مواجهة الجاهلية بكل إمكانياتها..ونحن الآن أيضًا في زمن الإيمان القوي اللازم لمواجهة هذه الجاهلية، ومنطق الشهادة هو أهم ضرورات المرحلة. وهناك إمكانيات إسلامية هائلة في المواجهة..منها الفطرة التي تولد مع كل إنسان..ومنها التأييد الرباني في كلِّ موقع من مواقع الصراع..ومنها اهتداء عقلاء النصارى الرافضين للتناقض والغموض إلى الإسلام..ومن أهم ضرورات المرحلة أيضا: أن يتعاون المسلمون في إدارتها ليكون لهم منطلق واحد، تجتمع فيه كل الطاقات الفكرية، وكل الخبرات العملية، وكل إمكانات المتابعة الواقعية. ومهما كانت الحرب التي تشنها الجاهلية.. فهي بالاعتبار الإيماني: زمن الصدق ومنطق الشهادة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 23].ونهايتها هي قدر الله المهيمن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].