وهي صيغة الجزم المؤكدة لصفة الإصرار, ويذكر القرآن إصرار الشيطان معبراً عن الهدف بالظن الذي صدقة إبليس على البشر بصيغة الحدوث الفعلي وذلك في قول الله: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين}. [سبأ:20]
غير أن هذه الصيغة مجرد تنبيه على تلك الصفة .
أما الإدراك الكامل لها فإنه يكون بالتتبع الدقيق لأساليب الشيطان حيث نجد أول دلائل الصفة أن الشيطان لا ييأس من إضلال أحد، وليس أدل على ذلك من أن إبليس قد خصص للنبي شيطاناً، ولم يستثنى النبي من تخصيصه شيطاناً لكل إنسان وهذا معناه أنه ليس عند إبليس حالة ميئوس منها, ولا تجدي معها المحاولة.
وبالرجوع إلى أحاديث الرسول: "إن لإبليس كرسياً فوق الماء"(2) نجد عبارة يقولها الشيطان لإبليس وهي: ".. ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته" وواضح فيها أن الشيطان لا يرجع عن هدف الإفساد إلا إذا تحقق.
وقد يخفق الشيطان مع الإنسان في مرحلة من مراحل إضلاله ولكنه لا ييأس من مرحلة ثانية وثالثة.
ولهذا قعد الشيطان لإبن آدم في كل مرحلة من مراحل الإلتزام بهذا الدين بما قد يجعله يتراجع في أي مرحلة منها.
وذلك بإثارة مشاعره نحو الآباء والأجداد لجعله يتراجع عن الإسلام.
..وإثارة مشاعره نحو الأرض والوطن لجعله يتراجع عن الهجرة..
.. وإثارة مشاعره نحو الزوجة والمال لجعله يتراجع عن الجهاد.
فيقول الرسول:" إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك فقال: فعصاه فأسلم..".
ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك. وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول(*) قال:فعصاه فهاجر.
ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد.
فقال رسول الله: "فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة".
وقد يأس الشيطان من تحقيق هدف له بدليل قول رسول الله: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم".
وكما وضح في الحديث من لفظ (ولكن) أن الشيطان عندما ييأس فإنما يأسه لم يكن كاملاً إذ أنه أبقى في نفسه أملاً في بقية من هذا الهدف ليتمكن بها من تحقيق ما يوازي الهدف الميئوس منه.
وذلك عندما رضى بالتحريش الذي يعتبر بداية طبيعية للعداء الذي يعتبر هو الآخر بداية طبيعية للاقتتال الذي يكون به الكفر.
ومن هنا لم يكن قليلاً أن يرضى الشيطان بالتحريش عندما يئس من أن يعبد.
وعندما يرضى الشيطان بالتحريش بديلاً عن الشرك, فإن هذا يجعلنا ننتبه إلى خطورة التحريش فأصل المسألة أن أمر الله أن نكون أمة واحدة تعبده سبحانه إلهاً واحداً كما في قوله { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون }.. [الأنبياء:92] وإن الشيطان يريد نقض أمر الله.
فلما يئس أن نعبد مع الله إلهاً آخر فإنه إتجه إلى الأمة الواحدة ليكون التحريش والتنازع.
وهذه هي العلاقة بين الشرك والتحريش . أن أحدها يغني عن الآخر في نقض أمر الله بقيام الأمة الواحدة التي تعبد الله وحده.
ولذلك يبين ابن القيم أن الشيطان عندما ييأس من الوصول بالإنسان إلى مرحلة من مراحل الشر فإنه لا ييأس من المرحلة التي بعدها.
فيقول: "ولا يمكن حصر أجناس شره فضلاً عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه ولكن ينحصر شره في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحداً أو أكثر:
أولها: شر الكفر والشرك..فإذا نال ذلك صيره من جنده وعسكره واستعان به على أمثاله وأشكاله وصار من دعاة إبليس ونوابه .
فإن يئس من ذلك نقله إلى ثانيها:
مرتبة البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والعصيان لأن ضررها في الدين نفسه وهو ضرر متعدد, فإن أعجزه عن هذه المرتبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة نقله إلى المرتبة الثالثة:وهي الكبائر..
ولا سيما إذا كان عالماً متبوعاً فهو حريص على ذلك لينفر الناس منه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه.. فإذا عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى الرابعة: مرتبة الصغائر وهي التي إذا إجتمعت أهلكت صاحبها كما قال النبي " إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض...الحديث".
فإن أعجزه العبد عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة: وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه فإذا أعجزه العبد عن هذه المراتب الخمس سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه بقصد إخماله وإطفائه ويشوش عليه قلبه ويشغل بالحرب فكره وليمنع الناس من الانتفاع به.
ثم يقول: فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان, ولو لم يكن من هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعاً لمن تدبره ووعاه".
ومن إصرار الشيطان على الهدف نجد الربط بين أساليب الشيطان وهدفه بصورة نهائية حتى جاءت صيغ الاستعاذة بالله من هذه الأساليب بنفس صيغ الاستعاذة من الشيطان نفسه.. ومن ذلك الاستعاذة من الدَّين .
حيث كان رسول الله يعلم أصحابه بقوله : " اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان, أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر".
وذلك باعتبار أن الذنب هو ركيزة الشيطان. وأن الدين لا يغفر حتى للشهيد بدليل قول رسول الله: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين".
ومن إصرارا لشيطان على الهدف أسلوب (الخطوات), ذلك أن الشيطان يوحي بعمل لا تظهر له نتائج مباشرة
ولكنها تظهر بتتابع وحي الشيطان بعمل آخر فيظهر في النهاية أن العمل الأول كان خطوة في تحقيق تلك النتائج ولذلك يقول النبي :
" يأتي الشيطان إلى أحدكم فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق الله ؟ فإذابلغه فليستعذ ولينته".
وفي رواية:" من خلق السموات ؟ فيقول الله. من خلق الأرض ؟ فيقول : الله .. وواضح من الحديث أنه لم يعرف أنه الشيطان إلا ببلوغه" من خلق الله ؟" ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم :" فإذا بلغه فليستعذ ولينته" أي بلغ قوله :" من خلق الله؟".
ويقول ابن عباس رضى الله عنه في هذا الأسلوب:" صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب ود..وسواع..ويغوث..ويعوق..ونسر..أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت".
ومن هنا جاء التحذير من هذا الأسلوب في قول الله سبحانه: {ولاتتبعوا خطوات الشيطان} [البقرة:208]
وقوله عز وجل: { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } [النور:21].