تنشأ دلائل الحكمة في أسلوب الدعوة من خلال سلوك الدعاة وتصرفاتهم السليمة ومواقفهم الصحيحة.
وأبرز هذه الدلائل هي:
الأولى: أن يصبح المسلم الحكيم بذاته دليلاً علي الحق.
مثل عمر الذي وافقه الله سبحانه وتعالي على رأيه، إذ يقول: (وافقت ربي ـــ أو وافقني ربي ـــ في ثلاث: في الحجاب، وتحريم الخمر، وأسري بدر ). وبلغ عمر حد النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيحته، وذلك عندما رأى أبا هريرة يقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فيضربه في صدره ويذهب به لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيجد أن رسول الله هو الذي أمره بذلك. فيقول في أدب: يا رسول الله، إذن يتكلوا، فيستجب الرسول لنصحه ويقول إذن يتكلوا… ومنع أبا هريرة من أن يقول الكلمة.
ومثلما حدث من سعد بن معاذ عندما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة بعدما غدروا في غزوة الأحزاب. فقال: تقتل مقاتليهم وتسبي زرايهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات).
الثانية: ومن دلائل الحكمة أن يستطيع المسلم الحكيم تجريد النص من الخطأ في الفهم أو التحريف في الكلم.
مثلما قال علي بن أبي طالب في الخوارج عندما رفعوا المصاحف على أسنة الرماح وقالوا نريد حكم الله، فقال: (كلمة حق يراد بها باطل).
الثالثة: ومن دلائل الحكمة صفة التلقائية في الفهم.
مثلما حدث من أبي ثمامة عندما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم علي الإسلام، فذهب إلي قومه وقال: لقد أسلمت.. ولن تأخذوا حبة قمح حتى يأذن لكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأدرك بإسلامه أن هذا يعني الولاء وأن الولاء يقتضي أن لا يتصرف في أمور حياته حتى لو كانت حبة قمح حتى يأذن في ذلك من أعطاه ولاءه.
الرابعة: ومن دلائل الحكمة ذاتية التصرف.
مثلما حدث من أبي بصير الذي أعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أهل مكة بعد معاهدة الحديبية التي نصت علي أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسلم يأتي إليه من قريش. فأصبح مسلماً ليس له صلة بقيادته ولا تملك له قيادته أي توجيه، فيتصرف تصرفه الذاتي الصحيح الذي كان سبباً مباشراً لإلغاء نص إرجاع المسلمين إلي قريش في المعاهدة.
يقتل من كان معه من مشركي قريش في طريق الرجوع بعد أن يخدعهم… ويحتل موقعاً بين مكة والمدينة ويقطع على قريش طريقها. فيسمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (مسعر حرب لو كان معه رجال)، فيسمع بقول رسول الله كل من أسلم من قريش فيذهب إليه، ويشترك معه، وتقوم حرب تبعث بعدها قريش إلي رسول الله ترجوه أن يمنعهم وتطلب بنفسها إلغاء ما اشترطته في المعاهدة.
الخامسة: أما دلائل الحكمة من الناحية الأخلاقية فقد ورد فيها عدة نصوص منها:
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا)، فصارت رقة الفؤا ولين القلب هي المرجع الأخلاقي للإنسان الحكيم.
وقولهم: الحكمة هي: (ضبط النفس والطبع على هيجان الغضب).
وقولهم: (الحكمة هي التواضع).
حيث سيكون المسلم الحكيم برقة القلب ولين الفؤاد متجهاً نحو تحقيق غايته بروح المسالمة والمصالحة. وسيكون بضبط النفس والبعد عن الغضب في حماية من أي تفكير انفعالي أو قرار انتقامي أو أسلوب أهوج… أما صفة التواضع فهي أهم الصفات الأخلاقية التي سنخرج بها من مرحلة الفتنة، حيث أنها صفة الباحث عن الحق.
وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكبر هو بطر الحق وغمط الناس)، والكبر هو الصفة المقابلة للتواضع ولذا لزم التركيز على هذا الخلق في تحديد دلائل الحكمة.
ومن هنا كان الربط بين التواضع والحكمة في قول الله عز وجل: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً 37 كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا 38 ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا)(سورة الإسراء الآيتان : 37 ــ 39).
وكما قررنا في تحديد معني الربانية أن أي مفارقة أو تناقض بين الإنسان وطبيعة المنهج تنشئ (الخطأ) في الفهم، نقرر أن أي مفارقة أو تناقض بين العلاقات الإنسانية في مجال الدعوة هي التي تنشئ (الخلاف).
ولما كان التواضع هو الشعور الشرعي عند المسلم بذاته وبغيره من المسلمين أصبح يمثل الأساس الأول في مهمة إنشاء العلاقة الفكرية الصحيحة في مجال الدعوة.
وإذا كانت كل صفات الحكمة تحقق في النهاية صفة التواضع فإن ما يحفظها بعد تحقيقها عدة وصايا أهمها:
- كراهية المدح وفيه جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احثوا في وجوه المداحين التراب)، حتى لا يكون للمادح أي تكريم أو تقدير في نفس من يسمع المداح، لأنه بمقدار تكريم المادح يكون نقص من يسمع مدحه.
وقد جاء في باب ما يكره من التمادح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال لرجل يمدح أخاه (ويحك، قطعت عنق صاحبك).
ولقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى تجاوز للشعور بالنفس حتى أنه عندما سمع رجلاً يطرق الباب فقيل له من؟ فقال: أنا، فعرف الغضب في وجه رسول الله وقال: ( أنا أنا )، فأصبح من صفة التواضع أن الإنسان يعرف الناس بنفسه ولا يفترض أن أحداً يعرفه دون أن يعرف هو بنفسه.
- وحب التميز في الإنسان هو المدخل إلي الكبر، ومعالجة هذا الخطر تتحقق بتوجيه حب التميز إلي الآخرة ودليل تلك هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير في اليوم مائة مرة كانت له حرزاً من الشيطان، ولم يأت أحد يوم القيامة مثله إلا رجل زاد عليه).
كما تتحقق الحماية من حب التميز بأن تقرن الأمور التي يرى فيها الإنسان تميزاً بمسئولية ذلك التميز مثل ميزة الإمارة التي قال فيها رسول الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون علي الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة )، وقال: (إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها ).
ولذا كان من أساليب التربية ذكر المسئولية التي تقع علي المسلم إذا كان هناك اضطرار لذكر ميزته مثلما حدث من الراهب مع الغلام في قصة أصحاب الأخدود عندما قال له (أي بني قد أصبحت أفضل مني؟ فقال له بعدها: وإنك ستبتلي ).
- وبجانب قاعدة ذكر الميزة نذكر ما يقابلها وهي قاعدة النقد وفيها يجب عند ذكر الخطأ أن نذكر قيمة الإنسان المخطئ حتى لا يكون في ذكر الخطأ أو التقصير فقدان لثقته بنفسه مثلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن عمر: (نعم العبد عبد الله…. لو كان يقوم من الليل).
وبذلك لا يكون ذكر الميزة سبباً للغرور بالنفس ولا يكون ذكر الخطأ سبباً لفقدان الثقة بالنفس. وبنفس المنطق يأتي الحديث الذي رواه البخاري (كاد الخيران يهلكا) أبو بكر وعمر رضى الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم فنلاحظ وصفهما (الخيران) قبل ذكر (أن يهلكا).
قطوف من كتاب حكمة الدعوة للشيخ رفاعي سرور رحمه الله.