قيام الجماعة الواحدة
ومهمة قيام الجماعة الواحدة تقوم أساساً علي الاتفاق الفكري، ولكن هذا الاتفاق في وضع الفتنة أمر صعب، ولذلك يجب أن تقوم الجماعة الواحدة في وضع الفتنة علي أساس الائتلاف القلبي. وتقديم أساس الائتلاف القلبي على أساس الاتفاق الفكري حكم من أحكام هذه الفتنة.
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم لكل صورة من صور الفتن موقفاً يجب اتخاذه، بحيث يمكن لنا تحديد قاعدة عامة يتم بها اتخاذ الموقف الصحيح لأي صورة من صور الفتنة وهو الموقف الذي إذا التزمه كل المسلمون توقفت الفتنة وإذا التزمة أي مسلم تحققت له النجاة منها.
وهذه القاعدة يتضمنها هذا الحديث:
عن أبى ذر قال: ركب رسول الله عليه وسلم وأردفني خلفه فقال: (يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع معه أن تقوم من فراشك إلي مسجدك كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تعفف. قال: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس موت شديد كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أصبر. قال: يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت في الدماء كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك، قلت: فإن لم أترك، آآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، و لكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك)(1).
وواضح من الحديث ثلاث صور للفتنة…. فتنة الجوع، وفتنة الموت، وفتنة الاقتتال.
ففي فتنة الجوع كان الموقف الصحيح هو التعفف.
وفي فتنة الموت كان الموقف هو الصبر.
وفي فتنة الاقتتال كان الموقف هو عدم المشاركة حتى لو بلغ الأمر أن يقتل المسلم دون أن يدافع عن نفسه وإن كان الأصل هو: (من قتل دون دمه فهو شهيد)، ولكن الفتنة تقتضي اختيار القتل دون الدفاع عن النفس، وفي هذا دليل على أن للفتنة أحكاماً خاصة.
فإذا كانت الفتنة فتنة فكرية فإن الموقف الصحيح يقتضي التوقف عن الجدل والظهور النظري للاتجاهات الحركية كما يقتضي استفاضة الحب وتحقيق الود والتجمع بالتآلف القلبي.
وهذه البداية شرط في حدوث هذا التجمع وصوابه.
بمعنى أن اتفاقنا على أننا واقعين في فتنة ذات طبيعة فكرية يقتضي بأن تكون الألفه بيننا مرهونة بمدى الاتفاق في فتنة فكرية وقرار الألفه حكم من أحكام مواجهة الفتنة حسب قاعدة التناسب بين طبيعة الفتنة وأحكام مواجهتها والمشار إليها في الحديث.
ويصبح اتفاقنا على أننا واقعين في فتنة فكرية عذراً لنا فيما بيننا وبين أنفسنا فيمتنع بذلك العذر اتخاذ أي موقف صراع ومواجهة بين الأطراف المختلفة.
والذي يحقق العون الأكبر على الامتناع عن حدوث الصراع بين الاتجاهات المختلفة هو إثبات مسافات التقارب بينها. ابتداء من الهدف المتفق عليه بين الجميع وهو قيام المجتمع المسلم.
وتقديم أساس التآلف القلبي علي الاتفاق الفكري في قيام الجماعة لا يعني تجاهل قيمة هذا الاتفاق الفكري بل يعني ضمان الوصول إلي هذا الاتفاق من خلال ذلك التآلف، فهناك حقيقة إسلامية في النفس الإنسانية تؤكد أثر القلب والإحساس علي العقل و الفكر اتفاقاً واختلافاً، ومنطوق هذه الحقيقة هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف).
وكذلك فهناك حقيقة تؤكد أثر العقل والفكر علي القلب والإحساس ومنطوقها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
ولكن التآلف الذي يتطلبه قيام الجماعة لا يقل عن الحد الذي حدده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد ـ من قريب ومن بعيد ـ بالسهر والحمي).
وكان هذا الحديث هو الواقع الذي عاشه المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رسول الله ومعه أبو بكر في طريق الهجرة يشتد عليهما الحر ويصيبهما الجوع فيذهب أبو بكر ليبحث عن ظل لرسول الله فيجد ظلاً لا يكفي غير واحد فيهيئه لرسول الله ويجلسه فيه ثم يذهب ليبحث عن طعام فيجد راعي غنم فيستأذنه في شيء من اللبن ويذهب به إلي رسول الله ثم يقول: فشرب رسول الله حتى (ارتويت) وفي رواية حتى (رضيت).
وهذا أبو هريرة يذهب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا رسول الله، أذكر لي آية الإنفاق، فيضحك رسول الله ويقول له: (انك جائع يا أبا هريرة ويعطيه لبنا).
رسول الله يشرب وأبو بكر يرتوي ويرضى. ويجوع أبو هريرة ويشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد قيام الجماعة بالتآلف، والمواجهة مع الجاهلية، تنشأ عوامل أخرى تزيد من التآلف وتعمق الترابط. وأبرز تلك العوامل هو الإحساس بالخطر الذي يحيط بالجماعة.
وقد انصهرت بهذا الإحساس مشاعر المهاجرين والأنصار في بوتقة الشدة التي بلغت أقصاها في غزوة الأحزاب، ولذلك يثبت القرآن الكريم أن قيام العلاقة الإسلامية الكاملة كان نتيجة طبيعية لمعايشة تلك المحنة.
فيصور لنا تلك العلاقة بخلفية الأحداث التي عاشها المهاجرون والأنصار في مواجهة خطر الأحزاب ثم يجعل هذه العلاقة التي عمقتها المحنة عمقاً للعلاقة الإسلامية على امتدادها التاريخي وإلي قيام الساعة. فجاء في سورة الحشر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (سورة الحشر الآية : 2).
ثم يقول: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ 8 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (سورة الحشر: الآية: 9،8).
ثم يقول: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)( سورة الحشر الآية : 10).
وفي سورة الأحزاب…
يحدد القرآن الأسس الشرعية التي تنتظم بها العلاقة بين المؤمنين ولكنه يذكر بعد تلك الأسس عمق المحنة الذي قامت به تلك العلاقة أصلاً فيقول:
(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)( سورة الأحزاب الآية : 6) وهذه هي الأسس، ثم يقول بعدها:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا 9 إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (سورة الأحزاب الآيتان :10،9).
وفي الواقع الإيمان الصحيح لا تؤثر نتائج المواجهة ولا تغير مشقاتها في حقيقة الحب والتآلف الذي قامت عليه الجماعة.
فلا يشعر فرد أن الجماعة هي التي جرت عليه هذا الأذى. وقد أثبت لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة عندما بعث رجلاً من الصحابة ليبحث عن رجل بين القتلى في إحدى الغزوات فوجده في لحظات الموت. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام. فقال الرجل اقرىء مني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ السلام، وقل له جزاك الله عنا خير ما جزى نبي عن أمته.
وهذا شعور رجل مقتول نحو رسول الله الذي دعاه للقتال يقرئه السلام…. ويدعو الله أن يجزيه عنه خير ما جزى نبي عن أمته.
وبهذا التآلف تحقق الاتفاق التلقائي بين مواقف الصحابة في أدق المواقف وأخطرها، فبهذا التآلف علم عمر أن قتل مانعي الزكاة حق عندما وجد أن صدر أبي بكر قد شرح لقتالهم، ولذلك يقول: (فما أن وجدت أن صدر أبي بكر قد شرح لقتالهم حتى علمت أنه الحق).
و بهذا التآلف اتفق عمر في كل ما أراد أن يقوله أبو بكر في سقيفة بني ساعده تلقائيا، وذلك عندما اجتمع المهاجرون والأنصار في السقيفة لاختيار الخليفة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد عمر أن يتكلم فمنعه أبو بكر وتكلم هو. فقال: عمر: (فوالله ما ترك كلمة كنت أريد أن أقولها إلا قالها).
وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم حب الصحابة له دليلاً على الولاء عندما قال المتحدث عن قريش في معاهدة الحديبية: (اجئتنا برعاع الناس، ما أراهم إلا تاركيك و منفضين عنك).
وقصة وضوؤه صلى الله عليه وسلم وابتدار أصحابه له ورجوع المتحدث ـ وهو عروة بن مسعود ـ وقوله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد في أصحابه هو من تمام الحديث.
فما أن توضأ رسول الله عليه وسلم حتى أخذت الصحابة بقية وضوئه تتمسح به وما أمرهم أمراً إلا ابتدروا أمره. فرجع المتحدث عن قريش يقول: (لقد رأيت الروم و قيصر… ورأيت الفرس و كسرى ما وجدت قوماً يعظمون ملكهم كما يعظم أصحاب محمد محمدا وأرى أن تصالحوه).
نهاية الفتنة الفكرية:
وبقيام الجماعة ينشأ الواقع الصحيح للفكر، لأن الجماعة هي الواقع الشرعي للتلقي، والمنظم الدقيق للفكر، والحاكم الرشيد للعقل، والحماية الحقيقية من الخطأ.
وبقيام الجماعة يصبح بقاؤها والحفاظ عليها أولى مبدئياً وعملياً من محاولة الاتفاق على أي أمر طالما تحقق الاتفاق على الأصل الذي قامت به الجماعة.
حتى لا يترتب علي تلك المحاولة انشقاق في كيان الجماعة التي قامت. ودليل هذه الحقيقة هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان المسلمون علي أمر رجل واحد وجاء من يشق عصاهم يكون الصواب هو قتل هذا الثاني.
حيث لن يكون لحقه قيمة في مقابل قيمة الجماعة الواحدة والمحافظة عليها.
ودليل آخر هو الأمر بترك المراء مه الاعتقاد بأن ما عند الفرد وما يريد إثباته هو الحق، و ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وهو محق).
حيث يتضح من الحديث أن ترك المراء وهو من أخطر أسباب التفرق هو الأمر الواجب. ولو كانت محاولة الاتفاق على أي أمر أولى من المحافظة علي العلاقة بين أفراد الجماعة لما كان هناك أمر بترك المراء رغم الاعتقاد بأن المراد إثباته هو الحق لأن الحديث يقول: (لمن ترك المراء وهو محق) ولذلك يجب أن تتحدد العلاقة بين الرأي الفردي ورأي الجماعة بما يضمن الاستفادة من فكر الفرد مع تفادي خطر الرأي الفردي على الاتفاق الجماعي.
أساس هذه العلاقة هو حق الفرد في إبداء رأيه، بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة…. الدين النصيحة….. الدين النصيحة…. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولرسوله و لأئمة المسلمين وعامتهم).
بشرط أن تنتهي علاقة الفرد برأيه بمجرد الإبداء فلا يعجب به بعد إبدائه حيث أن هناك نهياً عن الإعجاب بالرأي، ونصه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من علامات الساعة….. شح مطاع….. وهوي متبع….. واعجاب كل ذي رأي برأيه).
وبذلك تعتبر الجماعة هي المرحلة الأولي في إنهاء فتنة الفكر يتبعها في ذلك مرحلة ثانية وهي إحكام الفكر ذاته.
قطوف من كتاب حكمة الدعوة